للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حكم الخلاف والتشهير بأخطاء العلماء]

السؤال

ما تعليقكم على وجود بعض الدعاة الذين يشككون بتوجهات مشاهير الدعاة المخلصين؟ وما دور هذا في تفريق كلمة الأمة؟

الجواب

كل ما هو من أسباب الفرقة والنزاع ينبغي ألا يذاع ولا يشاع، وألا يكون من أبناء الأمة من يفت في عضدها، نعم هناك قضايا، وهناك أمور واجتهادات، لكن لا ينبغي أن تكون سبيلاً للتفرقة، وأذكر هنا نقطة؛ لأن هذا الموضوع أظنه يكثر الحديث عنه: مسألة الألفة والمحبة والائتلاف والاجتماع هي أساس التعاون والتناصح، والسعي والأخذ بأسباب نصرة الأمة، وتحقيق نشر الدعوة، والجهاد في سبيل الله عز وجل، فإذا لم توجد الأولى لم توجد الثانية، وإذا تأمل الإنسان في تاريخ الأمة، وأنا أوصي الإخوة جميعاً أن يكثروا من قراءة التاريخ؛ لأن القراءة في التاريخ تفيد في الوعي، وتقوي أيضاً الإيمان؛ لأنه يرى الإنسان مصارع الكفر والبغي، وكيف تدور الدائرة على الكافرين، وكيف تقع الهزيمة بالمسلمين إذا تخلوا عن أمر الله عز وجل إلى غير ذلك.

أقول: هناك أمور ثلاثة هي التي يختلف فيها الناس إما على الإمارة والسلطة، وإما في مجال الحكم والتشريع والاجتهاد فيه، وإما في مجال وسائل العمل والدعوة، ولو تأملنا في تاريخ الأمة فإننا نجد أن القدوات كانوا يعرفون ما يقع فيه الاختلاف السائغ والاجتهاد المشروع، فلا يجعلونه سبباً للنزاع، وكان عندهم أمر مهم جداً هو الذي ينبغي أن نفتش عنه بأنفسنا وهو: صدق التوجه لله عز وجل والإخلاص له، وصدق النصح للمسلمين، وإرادة المصلحة العامة، وألا يؤثر في نفوسنا بعض الأهواء أو الانتصار للنفس أو النظر إلى مكاسب شخصية أو غير ذلك، عندما عهد عمر رضي الله عنه إلى الستة من العشرة المبشرين بالجنة بالخلافة وقال: أنتم ستة اختاروا من بينكم من يكون خليفة للمسلمين، لو قلنا الآن لستة: اختاروا من بينكم من يكون مسئولاً عن هذه الطاولة لاختلفوا، فكيف وهؤلاء يريدون أن يكون أحدهم خليفة للمسلمين؟! ماذا صنع عبد الرحمن بن عوف؟! وانظروا ذلك في سير أعلام النبلاء في ترجمته، خرج من بينهم وقال: اجعلوا الأمر لي فيمن يلي منكم، وليست لي يعني قال: أنا لا أريد الخلافة وليست لي، ولا أتعلق بها، لكن اجعلوني أنا الذي أختار من بينكم، إذاً: خرج هو من حب السلطة أو الميل إليها، وراقب الله عز وجل وأخلص له، ونظر في مصلحة الأمة، ولم يلتفت إلى هذا.

وعند الاجتهاد في الأحكام الفقهية قد اختلف العلماء والأئمة المعتبرون، وما كان اختلافهم ليؤدي إلى فرقة، وفي التراجم كثير من هذا الباب، فالإمام أحمد كان يدعو للشافعي، فحين يسأله ابنه عنه يقول: يا بني! الشافعي للناس كالشمس للدنيا، والعافية للأبدان، فانظر هل لهما من بدل أو عنهما من عوض؟! وهو بينه وبينه اختلاف في مسائل لا تعد ولا تحصى.

ويقول الشافعي: خرجت من بغداد ما خلفت فيها أورع ولا أعبد ولا أزهد ولا أعلم من أحمد بن حنبل.

وفي ترجمة الشافعي في سير أعلام النبلاء أنه تناظر هو ويونس الصدفي في مسألة حتى علت أصواتهما، وافترقا، فلما لقيه من قابل أخذ الشافعي بيد يونس وقال له: يا أخي! ألا يصح أن نختلف ونأتلف؟! يعني: نختلف في مسائل الاجتهادات، ونأتلف في القلوب ووحدة الأمة، بدلاً أن نفرق الصفوف، فعلق الذهبي على ذلك تعليقاً جميلاً، وأثنى على الشافعي بهذا الفقه، وهذا النفس النفيس.

وهذا بابه يطول كثيراً، وفي وسائل الدعوة والعمل للإسلام أيضاً يختلف الناس في آرائهم وفي تصوراتهم؛ لما قد يكون أولاً، وما قد يكون آخراً، والوسيلة مشروعة والأمر يعود إلى خير، ولا يمنع ذلك من بذل النصح، ومن التناظر والتشاور، فإن الإنسان القاصر بالحق يرجع إلى الأولى وإلى الأحق، ولذلك الإمام أحمد رحمة الله عليه في فتنة خلق القرآن كان موقفه معروفاً مشهوداً، وكان موقف الإمام أحمد بن نصر الخزاعي أيضاً معروفاً مشهوداً، فقد رأى أن هذه الفتنة عميقة وطويلة، فرأى أنه لا بد من مواجهتها بعمل علمي دعوي، فاختفى ومعه بعض تلاميذه يعلمهم عقيدة أهل السنة والجماعة، ويبين لهم خطأ هذه العقيدة التي تزعمها المأمون في ذلك الوقت، وبلغ اختفاؤه خمسة وعشرين عاماً، ذكر الذهبي والخطيب البغدادي أيضاً في تاريخه أنه بلغ عنده عدداً كبيراً ممن عرفوا هذا المنهج الصحيح، وأنكروا هذا الخطأ، حتى كان له أمراء بالرصافة وبالكرك، وكادوا يثبون على الخلافة ليغيروا هذا الخلل تغييراً صحيحاً جذرياً، فبلغ أمرهم إلى الخليفة فقتل أحمد بن نصر الخزاعي وصلب جسمه في بغداد ورأسه في سر من رأى.

ولما كان يذكر أحمد بن نصر رحمة الله عليه عند الإمام أحمد كان يثني عليه ويمدحه، ويقول: ذلك رجل جاد بروحه في سبيل الله، وإن كان هذا رأى أسلوباً في مواجهة هذا الأمر، وذاك رأى رأياً آخر، لكن الكل كان ينافح عن دين الله، ويبغي مصلحة عباد الله عز وجل، وينصح لدين الله سبحانه وتعالى.