[أحوال السلف في تلقي الوصايا الربانية]
ولقد كانت استجابة الأصحاب في زمن المصطفى عليه الصلاة والسلام للشرع استجابة فريدة نادرة، ذلك أنه قال لهم: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به)، فكانت استجابتهم ليست مقتصرة على مجرد امتثال الأمر واجتناب النهي، بل المبادرة إلى ذلك كانت بالفعل سبقاً وحرصاً ومبالغةً عند بعض الناس في بعض الأحوال، كما كان ابن عمر رضي الله عنهما يحرص على اقتفاء السنة واتباع أثر النبي صلى الله عليه وسلم، حتى كان ينيخ ناقته حيث أناخ النبي صلى الله عليه وسلم ناقته، وحتى يستظل في سفره بالشجرة التي استظل النبي تحتها، فكان لا يدع شاردة ولا واردة ولا شاذة ولا فاذة إلا حرص أن يترسم فيها خطى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما قال ما قال، وجاءه بعض الناس بأقوال أبي بكر وعمر رضي الله عنهما قال: (يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول لكم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر!) ليبين أن المعقد إنما هو في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن الأقوال إنما تفهم في ضوئهما، وترجع إليهما، وتنطلق منهما، وما وافقهما فهو الحق، وما خالفهما فربما كان اجتهاداً وقع فيه خطأ.
وهكذا نرى من جهة أخرى جانب الانتهاء عندهم عن التحريم، فلقد كان الصحابة رضوان الله عليهم كما وصفهم الحسن رضي الله عنه بقوله: كانوا يدعون بينهم وبين الحرام سبعين باباً من الحلال.
أي: كانوا يتقون الشبهات، ويبتعدون عن المحرمات بعداً عظيماً؛ لما سيأتي ذكره في هذه الآيات والوصايا، كما في قوله: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ} [الأنعام:١٥١]، أي: اجعلوا بينكم وبينها مسافة؛ ولأن المصطفى صلى الله عليه وسلم قد قال: (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات يوشك أن يقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه).
وكم هي أقوالنا اليوم: هذا لا بأس به، وهذا ليس فيه شيء، وهذا من المكروهات، فما زلنا نفعل هذا، ونغض الطرف عن هذا، ونقع في هذا، حتى وقعنا في جملة أحوالنا في كثير من المحرمات إلا من رحم الله عز وجل.
روى البخاري في صحيحه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم تحدث إلى أصحابه يوماً وفي يده حرير وذهب، وقال: هذان حرام على ذكور أمتي حلال لإناثها، وكان في القوم رجل في يده خاتم من ذهب، فنزعه من فوره فوضعه، فلما انتهى المجلس قالوا له: لو أخذت خاتمك فانتفعت به، فقال: ما كنت لآخذه وقد طرحته لله ولرسوله)، أي: مع حل ذلك، لكنهم كانوا يريدون ألا يكون بينهم وبين شيء من النهي صلة ولا تعلق.
ولما نزل قوله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:٩٠] لم تبق لحظة واحدة ولا دقيقة واحدة قبل التنفيذ، بل كانت المبادرة التي شقت فيها دنان الخمر، وسكبت الكئوس من الأيدي، ومجت تلك القطرات من الأفواه؛ لأن القلوب مسلمة لأمر الله؛ ولأن الإيمان مستكن ومستقر فيها، ولسان حالها كما قال جل وعلا: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [آل عمران:٧].
هذه الآيات موجهة لهذه الحقيقة الكبرى وفي ظلالها، وبعدها الآيات التي فصلت فيما كان عليه أهل الشرك والجاهلية في زمان مضى، وهي كذلك في جاهلية اليوم وأزمنة العصر الحاضر تختلف صورها، وتختلف مظاهرها، لكن تتحد حقائقها، وتتفق أصولها في مناقضتها ومخالفتها لأمر الله عز وجل وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم.
وجملة هذه الوصايا فيها قيام الحياة كلها؛ ففيها قيام حياة القلوب بالتوحيد والإيمان، وقوام حياة الأسرة بالبر والإحسان، وقوام حياة المجتمع بالعفة والطهارة، وقوام حياة الإنسانية بالعدل والوفاء، فالإسلام العظيم يربي الفرد، ويقيم الأسرة، ويطهر المجتمع، ويظل الإنسانية بعدالته؛ لأنه دين كامل، وتشريع عظيم.
هذه الوصايا موجزة في ثلاث آيات فحسب، اشتملت على جملة من المأمورات والمحظورات التي بها تستقيم حياة الناس جميعاً مسلمهم وغير مسلمهم؛ فإن الإسلام جاء بالعدل والإنصاف، والوفاء بالحقوق، وإعطاء الناس ما لهم، ومطالبتهم بما عليهم.