[ولاية الله عز وجل عصمة من الخلاف والفتن]
ومن الهداية إلى الولاية تلك التي نفتقر إليها اليوم، والمسلمون يرون أحوالهم وأحوال أمتهم وهي في ضعف، والأعداء وهم في تسلط، والمعارك وهي تدار رحاها على رءوسهم وفي بلادهم، والهزائم على الأقل من الناحية المادية وهي تتوالى في بقاعهم وأصقاعهم، فما المنجى من ذلك؟ وأين هو طريق النصر؟ وأين هي الولاية العاصمة التي يجد فيها المؤمنون طمأنينة وأمناً، ويجدون فيها مستنداً وقوة واعتزازاً يجعلهم أثبت قدماً، وأقوى يقيناً، وأكثر قدرة على أن يستغلوا قليل ما في أيديهم من الإمكانات المادية؛ ليكون -بإذن الله عز وجل- عظيماً في المواجهة الإيمانية مع أعدائهم وخصومهم، وذلك ما ينبغي أن ننتبه له.
قال عز وجل: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:٢٥٧]، إن ولاية الله تعني حفظه ونصره، فإن أردنا حفظاً من الأعداء ونصراً عليهم فليس إلا أن نراجع ذلك الإيمان في قلوبنا، ونزيده في نفوسنا، ونحييه في واقعنا، ونجعله الحاكم على أحوالنا وأوضاعنا، والرابط فيما بيننا وفي علاقتنا وأواصرنا؛ فذلكم هو الذي يجعل الأمر ينتقل إلى أن نكون في هذه الولاية الربانية التي استشعرها المؤمنون في كل زمان ومكان.
قال عز وجل: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف:١٩٦]، قال الحسن البصري رحمه الله: هو المؤمن أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب الله من دعوته، فهذا ولي الله، وهذا حبيب الله.
وقال عز وجل: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة:٢٥٧]، فانظروا إلى إفراد النور؛ إنه أمر جامع موحد ليس فيه تعدد، وليس فيه اختلاف، أي: في كلياته الجامعة ومقاصده العظيمة ومراميه وغايته الكبرى.
إنه نور واحد وظلمات متعددة: ظلمات فيها الهوى والشهوة، وظلمات فيها الاضطراب والحيرة، وظلمات فيها الكبر والاستعلاء، وظلمات فيها النفاق والرياء، فسبل الباطل متنوعة وسبيل الحق واحدة، قال عز وجل: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:١٥٣]، والله جل وعلا وحد الإيمان والنهج الصائب والنور واليمين، وعدد ما يقابل ذلك؛ لأنه لا ينتهي إلى حد، ولأنه يتجدد في كل زمان ومكان من أنواع الضلالات وبروز المذاهب وطرق الأهواء وتعدد الآراء ما لا يكون معه عصمة إلا بكتاب الله، كما بينت آيات الله سبحانه وتعالى.
قال عز وجل: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:٢٥٧]، قال السعدي: هذا يشمل ولايتهم لربهم بأن تولوه فلا يبغون عنه بديلاً، ولا يشركون به أحداً، قد اتخذوه حبيباً وولياً، ووالوا أولياءه وعادوا أعداءه؛ فتولاهم الله سبحانه وتعالى بلطفه، ومنَّ عليهم بإحسانه؛ فأخرجهم من ظلمات الكفر والمعاصي والجهل، إلى نور الإيمان والطاعة والعلم، وكان جزاؤهم على هذا أن سلمهم من ظلمات القبر والحشر والقيامة إلى النعيم المقيم والراحة والفسحة والسرور.
وانظروا إلى المقابلة الربانية في المواجهة المنهجية، وكيف طبقها نبي الله صلى الله عليه وسلم في الحقائق الواقعية.
هناك حقيقة لابد أن تكون مستقرة في اليقين، وهي في قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:١١]، مولاهم: حافظهم وناصرهم ومؤيدهم.
وقال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:٣٨]، وقال سبحانه: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:٥١]، إنها حقيقة لا ترسخ إلا عند من عظم إيمانه، ورسخ يقينه، واستشعر كلاءة ربه وحفظ مولاه، واستشعر أنه يستمد قوته من قوة الله، وأنه يستنزل نصره من نصر الله، كما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم أحد، فبعد أن دارت الدائرة على المسلمين، ووقع ما وقع، واستشهد سبعون منهم، وشج وجه النبي صلى الله عليه وسلم، وسال الدم على وجنته وكسرت رباعيته ودخلت حلقتا المغفر في وجنتيه عليه الصلاة والسلام، وجاء أبو سفيان يستعلي بباطله، ويستعظم بكفره، ويفتخر بما ظنه من نصره، ويخاطب المسلمين صائحاً من على مرتفع: أفيكم محمد -صلى الله عليه وسلم-؟ أفيكم ابن أبي قحافة؟ أفيكم عمر بن الخطاب؟ فيأمرهم النبي أن يسكتوا ولا يجيبوا، ثم قال: لنا العزى ولا عزى لكم.
فيأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإجابة، وكان مما أجاب به النبي ولقنه للفاروق عمر: (الله مولانا ولا مولى لكم).
قالها النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الظرف العصيب، وفي تلك اللحظة التي كانت ربما تشير إلى أن المسلمين لم يكونوا في موقع المنتصر، ومع ذلك فالحقيقية واحدة، واليقين ثابت، واستشعار كلاءة الله عز وجل حي في القلوب وإن كان الوقت وقت هزيمة أو تراجع؛ لأن اليقين حاصل بأن كل أمر بقضاء الله وقدره، وأنه مرتبط بتقصير أو تفريط، كما قال عز وجل: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:١٦٥].
فكيف يكون ذلك حياً في قلوبنا ونحن اليوم نرى أمتنا والسهام تتوجه إليها من كل حدب وصوب، والدماء تسيل على أرضها في العراق وفي فلسطين وفي غيرها، وكيف نستشعر كلاءة الله ما لم نكن من أوليائه، وما لم نكن قد توليناه بنصره، ونصره: طاعته وإقامة شرعه والتعلق به، وأن يكون هو أحب شيء إلى قلوبنا، ويكون أعظم ما نتعلق به ثوابه جل وعلا ورضاه سبحانه وتعالى.
وأعظم ما نستنزل به النصر أو القوة إنما هو استمدادنا بالتضرع إليه، وأخذ الأسباب في ذلك هو من ضمن نهج الإسلام، لكنه ليس المعول عليه، ولكن ذلكم أمر مهم، فعلينا أن نجعله في ذاكرتنا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان في كل لحظة وسكنة إنما يظهر لنا أن أثر الإيمان في الولاية حفظاً من كل سوء ومكروه، وسلامة من كل عدوان واعتداء، ونصراً على كل قوة مهما عظمت، وذلكم من أعظم آثار الإيمان التي نحتاج إليها في وقتنا هذا.
نسأل الله عز وجل أن يعظم إيماننا، وأن يرسخ يقيننا، وأن يجعلنا ممن يستشعر كلاءة الله ورحمته وولايته ونصرته، وأن نستمد كل حول وقوة من خالقنا ومولانا جل وعلا، أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.