ثم يمضي عمر في تقرير منهجية العدل وترسيخه داعياً إلى إزالة العوائق التي تحول بين الناس وبين العدل؛ فإن بعض الناس قد يتنازل عن حقه، وقد يسقط ما له، وقد يترك قضيته، لا عن رضا وطيب نفس، ولكن من خلال بعض العوائق التي توضع في طريقه، كأن يماطل في حقه، أو يخوف من قريب أو بعيد، أو يبعث إليه من هنا وهناك، فيأتي ويعلن أنه قد أسقط حقه، وأنه قد تنازل عن قضيته، فأراد عمر ألا تكون هذه المظاهر تدل على إقامة العدل مع أنها أسست على صور من الظلم أو من منع العدل، فـ عمر رضي الله عنه يكتشف هذا بثاقب نظره، ويوصي بألا يكون هناك ما يبطئ إقامة العدل، أو ما يجعل الناس لا يندفعون لطلب الحق بقوة وجرأة، فإذا به يكتب إلى أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه ويقول له:(إذا حضر الخصمان، فعليك بالبينات العدول والأيمان القاطعة، ثم ادن الضعيف حتى ينبسط لسانه ويجترئ قلبه؛ فإنه ربما هاب السلطان والحكم، وربما هاب قوة الحكم فلم يفصح عن حجته، ولم يبن عن قضيته، فإن كان هذا في نفسه فأزل هذا العائق من نفسه، وتعاهد الغريب -أي: الذي جاء من بلد آخر لأجل هذه القضية، يريد أن ينتهي منها ليرجع إلى أهله- فإنه إن طال حبسه ترك حاجته وانصرف إلى أهله، وإنما ضيع حقه من لم يرفق، وآس بينهم)، أي: بين الخصوم، أي: ساوي بينهم، وفي أي شيء يساوي بينهم؟ هل في المنزلة والقدر أو في مجلس الحكم؟ ليس هذا مراد عمر؛ فهذا أمر مفروغ منه، ولكنه يقول:(وآس بينهم في لحظك وطرفك)، أي: في نظرتك إليهم، فإذا نظرت إلى هذا فانظر إلى ذاك، وإذا بششت في وجه هذا فبش في وجه ذاك؛ لئلا يكون لهذا مظنة في الاسترسال ولذلك مظنة في الانقباض، قال:(آس بينهم في لحظك وطرفك، واحرص على الصلح ما لم يتبين لك القضاء).
وهكذا يبين أساس العدل، وكيف يكون في نفس المؤمن، فيقول رضي الله عنه:(باب العدل الاعتبار، ومفتاحه الزهد)، ولعمري إن هذه الكلمات من عمر رضي الله عنه لكلمات تستحق أن تكتب بماء الذهب على صفحات النور، إذ يبين فيها الدافع الإيماني الذي يوجد الاندفاع والالتزام بالعدل، ثم يبين العائق الذي قد يصد الإنسان عن قيامه بالعدل، فهو يقول:(باب العدل الاعتبار، ومفتاحه الزهد)، ثم يشرح ويقول:(والاعتبار: ذكر الموت بتذكر الأموات، والاستعداد له بتقديم الأعمال، ومن ذكر ما بعد الموت اعتبر وارتدع عن الظلم، وعلم أنه إن ظلم أو جار أو قسط فإن من وراء ذلك حساباً، وإن من بعد الحساب عذاباً، فكان ذلك باب للعدل، وهو إقامة الخوف من الله عز وجل، ومراقبته في قلب المؤمن، فمن لم يخش الله لا يخشى أحداً من الناس، ومن لم يستحي من الله فإنه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت))، ثم يكمل عمر الشق الثاني بحكمته البليغة فيقول:(والزهد: أخذ الحق من كل أحد عنده له حق، وتأدية الحق إلى كل أحد له حق، ولا يُصانع في ذلك أحد، الزاهد: الذي نزع من نفسه التعلق بالدنيا وشهواتها، حينئذٍ لا يميل في حكمه طمعاً في دنيا الغني، ولا يميل في حكمه خوفاً من بطش القوي، فقد زهد -بمعنى: أنه لم يجعل للدنيا ولا لأهلها في نفسه ميزاناً- فمن استكمل ذلك فإنه قد استكمل الأساس الركين الذي يقيم به العدل بين الناس).
ولئن كان هذا قول عمر ومنهجه الذي بسطه لولاته، فإن تطبيقه العملي كان أروع وأعظم وأقدر من كل هذه المقالات على بلاغتها ووضوحها وشيوعها وذيوعها، فها هو عمر يعطينا المثل في تطبيق العدل على نفسه وعلى أهله وعلى ولاته وعلى الأشراف والعظماء، فكل يخضع لسلطان العدل، وكل يأخذ حقه بالعدل.