[مجال قوة الشخصية ورجاحة العقل]
من المجالات الأخيرة قوة الشخصية ورجاحة العقل.
يسرف بعض الرجال في وصف النساء بضعف الشخصية والميل للعاطفة، حتى كأن المرأة ليس لها من إيمانها ولا وفور عقلها ولا قوة شخصيتها ولا متطلبات إيمانها ما يجعلها تقدم أمثلة رائعة أو رائدة في هذا الباب، وليس كل امرأة لا يهمها إلا حليها، أو لا يهمها إلا طعامها، أو لا يهمها إلا زينتها، ليس هذا كله في هذا الجانب، بل المرأة المسلمة بما يعطيها الإيمان من معطيات تكون متميزة في مثل هذا الجانب، فعندها من قوة الشخصية ومقتضيات إيمانها ما يجعلها تثبت على الحق، كما ضرب الله عز وجل المثل بامرأة فرعون التي كانت في وسط بيئة الكفر، ومع ذلك قالت: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنَ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:١١].
وأم سلمة رضي الله عنها تضرب أيضاً مثلاً من الأمثلة في هذا التميز في الشخصية، لما أشارت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن صلح الحديبية لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم دون الاعتمار، وأمر الصحابة أن يحلقوا فشق ذلك عليهم، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (هلك الناس.
قالت: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: أمرتهم بأمر فلم يأتمروا.
قالت: يا رسول الله! قد علمت ما دخل على الناس في هذا الشأن، فلو أنك خرجت إليهم فأمرت حالقك أن يحلق رأسك لابتدروا إليه) فاستجاب النبي صلى الله عليه وسلم لمشورتها وأخذ برأيها، فتسابق الصحابة لما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يحلق حتى كاد يجرح بعضهم بعضاً، أي: من شدة مسارعتهم إلى استجابة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقصة أم سليم لما توفي ابنها وصبرت وتلطفت لزوجها وأحسنت هي لتخفيف المصيبة عنه دليل أيضاً على قوة شخصيتها وتميزها.
والشجاعة والقوة في هذا الشأن مثل مضروب لـ أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها، وهي التي خاضت غمار تجهيز ومساعدة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة، وهي التي وقفت الموقف الشجاع من الحجاج بن يوسف الذي كان سفاكاً للدماء، وكان يهابه الرجال الأشاوس، وقفت له أسماء رضي الله عنها لما أرسل إليها بعد مقتل ابنها، فأبت أن تأتي إليه، فأرسل إليها: إن لم تأتي إلي أرسلت من يجرك بقرونك.
فقالت: أرسل من يجرني بقروني.
فلما جاءه الرسول لبس نعاله وأتى إليها فقال: ما ترين أني فعلت بهذا -أي: بابنها-؟ قالت: أراك قد أفسدت عليه دنياه وأفسد عليك آخرتك، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يخرج من ثقيف كذاب ومبير)، فأما الكذاب فقد عرفناه، وأما المبير فما أراه إلا أنت، فخاف الحجاج من قولها، وانسحب ورجع على أعقابه.
وأمثلة أخرى كثيرة يمكن أن تذكر في مثل هذه المجالات وهذه الأبواب، وكما قلت: ليس الغرض هو ذكر القصص والأخبار، وإنما لأهمية الموضوع من جهة ولهذه المجالات الكثيرة من جهة أخرى.