للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تحريم الحلال وتحليل الحرام]

قال ابن تيمية رحمه الله: التشديد تارة يكون باتخاذ ما ليس بواجب ولا مستحب بمنزلة الواجب والمستحب في العبادات، أو تارة باتخاذ ما ليس بمحرم ولا مكروه بمنزلة المحرم والمكروه من الطيبات.

وهذه قضية أخرى، وصورة نفردها في شأن التحريم والتحليل.

جاء في حديث عائشة رضي الله عنها في الصحيح قالت: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم عليها وعندها امرأة فقال: من هذه؟ فذكرت من صلاتها -أي: عبادتها الزائدة عن الحد المشروع- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مه! عليكم من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا، وكان أحب الدين إليه ما داوم عليه صاحبه).

وهذا ظاهر في هذا التوجيه والإرشاد، وجاء من حديث عائشة ما يبين ذلك، وأثره في الصحابة وتوجيه النبي صلى الله عليه وسلم لهم، قالت: (كان إذا أمرهم أمراً أمرهم من الأعمال ما يطيقون فقالوا: إنا لسنا كهيئتك يا رسول الله! إن الله قد غفر لك من ذنبك ما تقدم وما تأخر)، كان يأمرهم من الأعمال بأوامر يطيقونها، وبعبادات يتيسر عليهم فعلها، فيرون أن ذلك دون طاقتهم وهمتهم وعزيمتهم، فيرغبون في الأكثر فيقولون: (إنا لسنا كهيئتك يا رسول الله! إن الله قد غفر لك من ذنبك ما تقدم وما تأخر، قالت: فكان يرى الغضب في وجهه صلى الله عليه وسلم ثم يقول: إني أتقاكم لله وأعلمكم به).

أي: قمة ما كان يأمر به هو التقوى، وإرشاده لأمته هو الأفضل والأكمل والأمثل الذي لا مزيد عليه، فمن أراد زيادة فإنما يخرج عن نهج الاعتدال الذي هو سمة الدين، ومن أراد تشديداً فوق المشروع فإنه كأنما يرى في فعل النبي صلى الله عليه وسلم قصوراً ونقصاً، وهو يريد أن يكون أفضل أو أكثر.

وقد أثر عن مالك إمام دار الهجرة: أن رجلاً جاء فسأله وهو في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ميقات أهل المدينة فأخبره به، وهو مكان معروف في خارج المدينة، فقال الرجل: لأحرمن من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الإمام مالك: هذه والله الفتنة! فسمع الرجل فرجع وقال: وأي فتنة يا أبا عبد الله! إنما هي أميال أزيدها أبتغي بها ثواب الله؟! أي: أحرم من هذا المكان فتزيد المسافة التي أسيرها وأنا محرم فيعظم أجري عند الله، فقال له: الفتنة أن تعمل عملاً تظن أنك فيه خير من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فليس هناك خير ولا كمال ولا فضل أتم وأكمل مما أثر عنه عليه الصلاة والسلام.