للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تغيير الغفلة إلى الذكر]

ثانياً: غفلة وذكر: وهي تابعة لذلك العلم الذي يورث الذكر، ويمنع الغفلة، وصحوة وغفلة، كم نحن في حاجة إلى ذلك، قال تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأنبياء:١ - ٣] أليس هذا وصفاً يصدق في كثير منا معاشر المسلمين؟ ألسنا نمر بكثير من الأمور دون أن نتيقظ؟ أليس حال كثير منا نوم بلا يقظة، وتسويف بلا حزم، وابتلاء بلا اعتبار، قلوب عميت، وأنفس رتعت، وبصائر ضلت، وعقول في الغي سادرة، وألسن باللغو ناطقة، وآذان للفحش مصغية؟ أليست هذه الأحوال المهلكة هي سبب تسلط الأعداء علينا، وبها حلت بنا النكبات، ونزلت بنا المصائب؟ ألسنا في حاجة إلى أن نصحو من نومنا، وأن نتذكر من غفلتنا، أم أننا كما نقول في أمثالنا: (عادت حليمة إلى عادتها القديمة)؟ حادثة مرت، وسحابة صيف انقشعت، وعدنا إلى لغو القول، ولهو السمر، وغي الفعل والعقل، وكأن شيئاً لم يكن، ثم نقول من بعد: ما الذي جرى؟ ما الذي حصل؟ أين نصر الإسلام؟ أين نصر المؤمنين؟ ونحن في هذه القضية على هذا النحو من الغفلة، آيات تتلى، وأحاديث تروى، وعبر تتوالى، ومصائب تتعاظم، والقلوب ما زالت غافلة قال تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} [يونس:٩٢].

احذر أخي المسلم! فإن القضية خطيرة، وإن الغفلة مهلكة، وإن سهو القلوب وغي النفوس عظيم في أثره الدنيوي من موات هذه القلوب وقسوتها، ومن ضلال تلك النفوس وظلمتها، ومن انحراف تلك العقول وغيها، وإنه من بعد ذلك في الآخرة -والعياذ بالله- سبب لاستحقاق عذاب الله قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:١٧٩]، فهل نريد أن يصدق فينا هذا الوصف وقلوبنا لا تعي، وأعيننا لا تبصر، وآذاننا لا تسمع -ليس السماع ولا البصر الحقيقي، وإنما ما وراءه من الانتفاع والاعتبار والتذكر واليقظة- أم نريد أن نكون من الغافلين، ثم يكون وصفنا القرآني أننا كالأنعام بل أضل، وأنه -والعياذ بالله- يكون حالنا أن نكون من حطب جهنم ومن حصاها وجثاها؟ أفلا قلوب تتذكر؟ قال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:١٦].

أنرضى أن نكون على وصف أولئك الذين ضلوا وانحرفوا وزاغوا وغيروا وبدلوا؟ أنرضى أن نكون نحن أمة القرآن، أمة محمد صلى الله عليه وسلم على خطا المنحرفين الضالين من اليهود والنصارى؟ أنرضى وقد حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب خرب لدخلتموه)؟ ما بالنا؟! أين العقول؟! أين القلوب؟! أين الآذان والأبصار؟! قضية مهمة، وغفلة خطيرة حذر منها علماؤنا وأئمتنا، وبينوا خطورتها، ولا بد لنا أن نعي ذلك، وأن ننتبه له، يقول ابن تيمية رحمه الله: الغفلة عن الله والدار الآخرة تسد باب الخير الذي هو الذكر واليقظة، والشهوة تفتح باب الشر والسهو والخوف، فيبقى القلب مغموراً بما يهواه ويخشاه، غافلاً عن الله، رائداً غير الله، ساهياً عن ذكره، قد اشتغل بغير الله سبحانه وتعالى.

ويقول: الغفلة والشهوة أصل الشر قال تعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:٢٨].

والأمر خطير -أيها الإخوة الأحبة- والعلاج في الذكر واليقظة، وأقولها في كلمات ثلاث مرة أخرى: تذكروا الآخرة، تذكروا الموت وما بعده، الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا، ورحم الله الحسن يوم قال عندما رئي الخوف في عينيه، وبادياً في اصفرار وجهه؛ قال: أفكر في ليلة صبحها يوم القيامة.

نحن أمة الإسلام والقرآن كم نقرأ في الآيات ما تندك له الجبال، وتتصدع له الصخور الصماء! والله جل وعلا قد قال لنا ذلك، وبينه في كتابه سبحانه وتعالى حيث يقول: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} [الرعد:٣١] والتقدير: لكان هذا القرآن.

قرآن يحيي موات القلوب فما بال قلوبنا لا تتذكر وتعتبر.

ونقولها ثانية: أديموا المحاسبة، كيف تمضي الأيام، وتنصرم الأعوام، ونحن لا ننظر إلى الوراء، لا نحاسب أنفسنا، لا ننظر إلى سجلاتنا؟ ما بال التجار في كل عام؛ بل في كل شهر؛ بل في كل فترة يراجعون الحسابات ويبحثون عن سبب العجز، ويبحثون من المقصر فيه، ويحاسبون ويعاقبون؟ والليل يتبعه النهار، والنهار يتبعه الليل، واليوم يأتي به ما بعده، والأسبوع يخلفه غيره، ونحن بدون محاسبة (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم).

وأخيراً في هذا الباب: اعتبروا بالأحداث، والله جل وعلا يقول: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر:٢]، لا ينبغي أن يمر الأمر، والخطب الجلل، والمصيبة العظمى فنذرف عليها دمعة واحدة، ونتحدث عنها مرة واحدة، ثم لا يكون شيء وراء ذلك! والأمر -كما قلت- في غاية الخطورة.