للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ومضات من أفعال السلف وحرصهم على الوقت]

ولو أردنا أن ننقل من الأقوال لرأينا كثيراً وسمعنا كثيراً من هذه المعاني المشرقة التي تبين الفهم الصحيح لقيمة هذه الحياة، ولكني أنتقل من الأقوال إلى الأفعال من الصور الأخرى: ذكر الذهبي في ترجمة الإمام الشافعي رحمه الله: أنه كان يقسم ليله ثلاثة أقسام: قسم يكتب فيه، وقسم يصلي فيه، وقسم ينام فيه.

قال الذهبي رحمه الله معلقاً على ذلك: أفعاله الثلاثة عبادة بالنية.

أي: حتى نومه صار عبادة؛ لأنه يأتي في سياق راحة تستأنف بها الأعمال، وتتجدد بها الهمة، ويتقد النشاط.

ويقول أبو الوليد الباجي من علماء المالكية: إذا كنت أعلم علماً يقيناً أن جميع ساعات حياتي كساعة، فلمَ لا أكون ضنيناً بها، وأجعلها في صلاح وطاعة؟! والعمر كساعة؛ تنقضي منها الثواني، وتتولى بعد ذلك الدقائق، ثم الأرباع والأنصاف، ثم تنتهي.

ففي قوله: (إذا كنت أعلم يقيناً أن حياتي كلها كساعة، فلمَ لا أجعلها في عمل وطاعة؟) فقه الحياة، وفقه الوقت، وفقه الدقائق والثواني.

دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثوانِ وبعضهم لو قلنا له: هذه ثانية، لقال: وما هذه الثانية؟ ولو قلنا: دقيقة، لقال: لا تدقق، ولو قلنا: ساعة، لقال: أمرها سهل، وإن كان يوماً فلا بأس، وإن كان أسبوعاً فكذا وكذا.

إذاً: فما قيمة العمر كله؟ وما قيمة هذا الوقت؟ قال صلى الله عليه وسلم: (أعذر الله إلى امرئ أخر عمره حتى بلغ الستين)، رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن سيد الخلق صلى الله عليه وسلم.

وتأمل معي كذلك حال ابن عقيل الحنبلي، وهو من العلماء الأفذاذ الذين ضربوا مثلاً عظيماً في اغتنام الأوقات، يقول: قد عصمني الله في شبابي بنوع من العصمة، وقصر همتي على العلم، وما خالطت في شبابي لعاباً قط، ولا عاشرت إلا أمثالي من طلبة العلم، وهأنا في عشر الثمانين - أي: في الثمانين من العمر- أجد من الحرص على العلم أشد مما كنت أجده وأنا ابن عشرين! فهو يقول: ما خالطت لعاباً قط، ونحن اليوم نأتي باللعابين ليضيعوا لنا الأوقات، ونجد أن كثيراً مما يكون في هذه العطل أو الإجازات مخصص لتبديد الأوقات وتضييعها، مع أن الآمال قبلها تقول وخاصة عند الطلاب: إذا جاء الصيف سأفعل وأفعل، وإذا جاء الصيف سأحفظ وأحفظ، وإذا جاء الصيف سأقرأ وأقرأ، ثم نراه لاهياً عابثاً نائماً كسولاً إلى غير ذلك مما نراه.

وهكذا نرى مواقف عظيمة وكلمات جليلة: هذا أبو بكر محمد بن عبد الباقي من سلالة كعب بن مالك رضي الله عنه يقول: حفظت القرآن وأنا ابن سبع سنين، وما من علم إلا وقد نظرت فيه إلا النحو؛ فإن حظي فيه قليل، قال: وما علمت أني ضيعت ساعة من عمري في لهو أو لعب! وهذه الصور الكثيرة أختمها بصورة للإمام ابن كثير رحمه الله مع الإمام أبي الحجاج المزي، وكان شيخه في الحديث، ثم تزوج ابن كثير ابنته، فـ ابن كثير يحدث عن هذا الإمام العظيم فيقول: وقذتني كلمة سمعتها من أبي الحجاج - الوقذ هو: الحصاة تصيبك، أي: آلمتني وأيقظتني- قيل: ما هي؟ قال: سمعته يقول على أعواد المنبر: إن امرأً ذهبت ساعة من عمره في غير ما خلق له حري أن تطول عليها حسرته يوم القيامة! فكانت هذه الكلمة ترن في أذن ابن كثير وتجيش في نفسه، وكأنها سياط تضربه وتوقظه، وكلما فتر تذكر، وكلما كسل نشط، وحسبنا في هذا المقام مثل هذه التذكرة؛ فلا سهر ولا عبث، ولا نوم ولا كسل، ولا فوضى ولا أذى.

نسأل الله عز وجل أن يردنا إلى هذه الخلال، وأن يحلينا بهذه الخصال، وأن يجعلنا مغتنمين للأوقات، وغير مضيعين للثواني والدقائق والساعات.