[طرق الإصلاح ومعالمه]
لدينا كثير من الأبواب والمسالك التي هي من طرق الإصلاح في كل أمر من الأمور، ولها معالم كثيرة، ومن أولها وأبزرها التعليم والإرشاد، فإن الناس قد عمهم -إلا من رحم الله- جهل كبير بكتاب الله وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وبمعرفة أحكام الإسلام ومقاصده الكبرى وقواعده العظمى، وموازينه وضوابطه التي يعرف بها الترجيح بين الأدلة عند تعارضها واختلافها، والترجيح بين المصالح والمفاسد، وغير ذلك من الأمور المهمة التي ينبغي أن يشيع علمها في عموم الأمة، وأن تكون موضع اهتمام ورعاية وتعمق وتخصص عند علمائها ودعاتها والمتصدرين فيها لأي أمر من أمور الخير والإصلاح والدعوة والإرشاد.
المعلم الثاني: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الخير، ورسول الهدى صلى الله عليه وسلم يقول: (بلغوا عني ولو آية) فما بالنا نترك هدي النبي صلى الله عليه وسلم وحثه وحضه وبيانه وتفصيله لهذه الشعيرة وأهميتها وطرق ممارستها في كل الجوانب، وفي كل الجهات المختلفة؟ كما نعلم من كثير من أحاديث المصطفى التي يضيق المقام عن ذكرها، كحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الحديث المشهور: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) وبيانه صلى الله عليه وسلم لصور كثيرة مختلفة في هذا الشأن، فأين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟! وأين الدعوة بأساليبها الحكيمة ومواعظها الحسنة ومجادلاتها اللطيفة؟! أين ذلك في واقع الأمة؟ هل استنفدت أغراضها؟ هل تعلم الجاهلون؟ هل تذكر الغافلون؟ هل حذر الذين يسرفون على أنفسهم بالمعاصي؟ إلى غير ذلك من أمور كثيرة.
المعلم الثالث: التدرج وحسن سياسة الناس؛ فإن الأمور لا تأتي طفرة، وإن الإصلاح لا يأتي دفعة، وإن هذا الذي يمكن أن يظن أنه يصلح في كثير من الأحوال عندما لا يأخذ بالهدي النبوي والنهج القرآني يفسد ولا يصلح.
هذا عمر بن عبد العزيز -وكلنا يعلم من هو خيراً وصلاحاً وتقىً وعدلاً وإنصافاً وزهداًَ- يدخل عليه ابنه فيقول له: ما لك لا تنفذ الأمور فتصلح الفاسد وتقوم المعوج وتلزم الناس الحق، فوالله لا أبالي إن غلت بي وبك القدور؟! فيقول عمر -ولا نستطيع أن ننافسه رحمه الله في إيمانه وتقواه، ولا في غيرته وحميته، ولا في علمه وبصيرته، ولا في حنكته وحكمته- يقول رحمه الله في هذا الشأن: يا بني! إن الله ذم الخمر في آيتين وحرمها في الثالثة، وإني أخشى أن أحمل الناس على الحق جملة فيدعوه جملة، ويكون من ذا فتنة.
لم يمنعه من ذلك أنه لا يعرف أن هذه أمور مطلوبة أو مرغوبة أو مستحبة، لم يمنعه من ذلك أنه لم يكن غيوراً على دين الله حريصاً على نشر الخير، لكن البصر والبصيرة، لكن الحكمة في سياسة الأمة، لكن الحنكة في إنفاذ الإصلاح دعت عمر -وهو حاكم وخليفة وسلطان- أن يتأنى وأن يحسن السياسة والإصلاح، فما بال من يكون ليس في علمه ولا في سلطانه ولا في مقام تقواه وإيمانه؟ نسأل الله عز وجل السلامة.
ثم انظر إلى ما وراء ذلك من أمور كثيرة، وأحوال عظيمة، وأصول شرعية مانعة جامعة، ومن أبرزها أن الإصلاح في ديار الإسلام لا ينطلق من منطلق الفرقة وضياع العصمة، والبدء بخلع السمع والطاعة والإمرة والإمارة، فإن ذلك لا يُتحدث عنه سياسة، ولا ينبغي أن يُتحدث عنه نفاقاً ومداهنة، بل هو مما جاءت به الآيات ونصت عليه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل جاء في تفصيل الأحاديث النبوية ما قد يعجب له بعض الناس، من ذلك التشديد والتأكيد على مجتمع المسلمين على السمع والطاعة، والحرص على الجماعة، فإن ذلك من أعظم الأمور وآكدها، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (اسمعوا وأطيعوا ولو تأمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة.
قالوا: يا رسول الله! هل ننابذهم؟ قال: لا.
ما أقاموا فيكم الصلاة) وسأله السائل فيما جاء في حديث حذيفة الطويل في الفتنة: (فماذا أفعل إن أتي بي إلى الصف؟ قال: خذ سيفك ودقه بحجر) أي: لئلا يكون لك مشاركة في أمر يكون به إزهاق أرواح المسلمين، وفي الفتنة التي تعم مجتمعاتهم.
(فقال: يا رسول الله! أرأيت إن أتي بي بين الصفين؟ قال: إذاً يبوء بإثمه وإثمك).
وهناك كثير من الأحاديث تبين لنا أمراً مهماً، وهو أن الخلل والنقص ووجود بعض الانحراف القليل مع وجود عصمة جامعة للأمة وإمرة ضابطة لأمورها، فإن الهدي النبوي في معالجة الأمر لا ينزع -قطعاً- إلى خروج عن هذه الطاعة؛ لما يترتب عليه من المفاسد الكثيرة التي ذكرها العلماء، ومن ذلك ما ذكره ابن بطال فيما نقله ابن حجر في حكمة هذه النصوص النبوية التي تمنع من سفك الدماء والخروج على الطاعة، قال: فيه حقن الدماء، وتسكين الدهماء.
وذلك يمنع الفوضى التي رأينا مثيلاً لها في البلاد المسلمة التي انفرط عقدها، والتي عظمت فيها الفتنة والرزية، والتي تجاوزت فيها بعض هذه البلاد أكثر من عقد من الزمان والأمن فيها مختل، والحال فيها سيئ، والتعليم فيها منقطع أو مضطرب، وحياة الناس في كرب، وأمر الإسلام وإقامته وشرائعه لم تتحقق على ما كان يظن أو يتوهم أو يقول أولئك القوم في تلك البلاد أو غيرها.
وهذا من الأمور المهمة، نسأل الله عز وجل أن يبصرنا بحقائق ديننا في كتاب ربنا، وأن يبصرنا ببينة أمرنا في سنة نبينا، وأن يجعلنا أبعد ما نكون عن الفتنة والمحنة، وعما يترتب عليه الفساد والإفساد، إنه جل وعلا ولي ذلك والقادر عليه.