للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[وقفات من هدي السلف وتوجيهاتهم في باب النصيحة]

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين! أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله عز وجل، وإن من التقوى إخلاص النصح لأخيك المسلم على الوجه الشرعي، وإن من التقوى تجنب هتك ستر المسلم وفضحه على رءوس الأشهاد إلا ما كان محتاجاً إليه منصوصاً عليه لك فيه مستند من شرع الله جل وعلا، وذلك ليس إلا في النادر من الحالات التي ذكرها أهل العلم، وإلا فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان كثيراً ما يقول: (ما بال أقوام يفعلون أو يقولون كذا وكذا؟)، فبيانك الأمر مغنٍ عن بيان فاعله أو قائله إن كنت تريد الإصلاح والنصح والتغيير بما يرضي الله سبحانه وتعالى.

وأقف أيضاً وقفات يسيرة مع أقوال سلفنا وتوجيهاتهم وإرشاداتهم، وهم القوم الذين قد عظم الإيمان في قلوبهم، وغزر علمهم، وصح عندنا حسن اعتقادهم، وظهر لنا كثير من آثار تقواهم وورعهم، فهم ممن نستهدي بهديهم وممن نقتفي آثارهم: هذا أبو بكر عبد الله بن عبد الله المزني يقول ناصحاً لنا وموجهاً كلمات جميلة انتخبت بعضاً منها: احملوا إخوانكم على ما كان فيهم، كما تحبون أن يحملوكم على ما كان فيكم، وإذا رأيت من هو أكبر منك سناً فقل: هذا خير مني؛ قد صام وصلى وعبد الله قبلي، وإذا رأيت من هو أصغر منك فقل: هو أحدث مني سناً، وأقل ذنوباً، واتخذ أكبر المسلمين لك أباً وأوسطهم لك أخاً وأصغرهم لك ابناً، أوتحب أن تعذب الطفل الصغير، أو تظلم الشيخ الكبير؟ ولتشتغل بذنوبك عن ذنوب العباد، واشتغل بالتوبة والاستغفار، وليسعك ما أنعم الله به عليك عما أنعم به على العباد، واشتغل فيه بالحمد والذكر والشكر، ولا تنظروا لذنوب الناس كالأرباب، وانظروا إلى ذنوبكم كالعبيد.

وأحب أيضاً أن أنبه إلى ما نبه إليه الصحابي الجليل أبو الدرداء رضي الله عنه في مقالة عظيمة مؤثرة اقتبسها من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحتاج منا إلى التأمل والانتباه! يقول فيها: (أيما رجل أشاع على امرئ مسلم كلمة هو منها بريء؛ ليشينه بها، كان حقاً على الله أن يعذبه بها يوم القيامة في النار حتى يأتي بنفاذ ما قال)، وهذا اقتباس من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الطويل الذي رواه أبو داود والحاكم وصححه ووافقه الذهبي ورواه البيهقي في سننه عن ابن عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في ضمن حديثه: (ومن بهت مؤمناً -أي: قال فيه بهتاناً وافتراءً ما ليس فيه- حبسه الله في ردغة الخبال حتى يأتي فيما قال بمخرج وليس بخارج).

وهذا التحذير يبين لنا ما يترخص فيه بعض الناس من إشاعة القول من غير تثبت ولا بينة، بل بعضهم قد يعلم كذب القول ويشيعه، وذلك له أسباب ودوافع ليس هذا المقام مقام ذكرها، ومن أكثرها: الحسد لأهل الخير والصلاح، أو لمن يوفقه الله عز وجل لإرشاد أو لإصلاح أو لتقدم في أمر من الأمور، فإن الحسد يوغر الصدور، ويحمل على ارتكاب عظائم الأمور.

وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يرشدنا إلى تحقيق هذه المعاني الإيمانية التي ينبغي أن ننتبه لها حيث قال: (لا تعجبكم من الرجل طنطنته، ولكن من أدى الأمانة وكف عن أعراض الناس فهو الرجل).

وروى ابن أبي الشيخ في (التوبيخ والتنبيه) عن أعرابي أنه قال: إذا ثبتت الأصول في القلوب نطقت الألسن بالفروع، فمن نطق بقبح فإنما استمده من قبح ما في قلبه، ومن نطق بفحش فإنما ذلك استمداد من قلبه.

والله يعلم إن قلبي لك شاكر ولساني لك ذاكر، وهيهات أن يظهر الود المستقيم في القلب السقيم؛ فإن القلب المريض الذي قد غشه صاحبه بالبغض لأهل الإيمان أو الحسد لأهل السبق في الخيرات إنما يصدر عنه -غالباً- ما لا يكون لائقاً بالمسلم.

وهذا أكثم بن صيفي ينصح بنيه قائلاً: يا بني! كفوا عن ذكر مساوئ الناس تصف لكم صدورهم.

فالنصيحة أيها الأخ المسلم! مطلوبة منك وواجبة عليك، لكنك ينبغي أن تخلص فيها لله أولاً، وأن تكون فيها على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثانياً، وأن تمضي في تكرارها والثبات عليها ثالثاً، وأن تحذر أن يخالط قلبك شيء مما حذر الله ورسوله منه، أو أن يخالط قلبك ما لا ينبغي أن يكون تجاه أخيك المسلم؛ فإنك تبغض منه معصيته، وتحب منه ما كان من طاعته، وتود من قلبك لو أقلع عن المعصية؛ فإن المؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه.

واحذر مما يقع فيه كثير من الناس من الفضح، والهتك، والتجسس، والغيبة، وإشاعة الفواحش، وكن واقفاً لأولئك القوم بالمرصاد نصحاً لله ولرسوله، وبين لهم الآثار الوخيمة، وبين لهم المحاذير الشرعية التي يقعون فيها أثناء ذلك، فسلف الأمة -كما أثر عن كثير من علمائهم وفضلائهم- كانوا لا يغتابون أحداً، ولا يسمحون في مجالسهم أن يُغتاب أحد، فإن تكلم أحد نهوه، فإن سكت وإلا قاموا من المجلس؛ لئلا يكونوا في ذلك مشاركين.

واعلم أخي المسلم! أن من أعظم الحرمات حرمة المسلم في عرضه وماله ودمه، فقد جاءت النصوص حافظة لهذا المعنى معظمة له، فاحذر أن تكون واقعاً في هذا، والله أسأل أن يرزقنا جميعاً العلم النافع والعمل الصالح.

اللهم ردنا إلى دينك رداً جميلاً، اللهم خذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وألهمنا الرشد والصواب.

اللهم وفقنا للصالحات والخيرات، واصرف عنا الشرور والسيئات، واغفر اللهم لنا ما مضى وما هو آتٍ.

اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا.

اللهم أنزل علينا الرحمات، وأفض علينا الخيرات، وضاعف لنا الحسنات، وارفع لنا الدرجات، وامح عنا السيئات، وأقل لنا العثرات يا رب العالمين.

اللهم اجعل لنا من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية.

اللهم استرنا فوق الأرض، واسترنا تحت الأرض، واسترنا يوم العرض، ولا تخزنا اللهم يوم العرض عليك.

اللهم اجعلنا ممن أخلصوا دينهم لك، اللهم اجعلنا ممن حرصوا على اتباع سنة نبيك صلى الله عليه وسلم.

اللهم اجعلنا من الناصحين لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم يا رب العالمين.

اللهم اجعلنا من القائلين بالحق والداعين إلى الخير والمتبعين لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا يا أرحم الراحمين! اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.

اللهم مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، برحمتك وقوتك يا رب العالمين! اللهم من أرادنا وأراد المسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد المسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء.

اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم زلزل الأرض تحت أقدامهم، اللهم خذهم أخذ عزيز مقتدر، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، اللهم استأصل شأفتهم، ودمر قوتهم، وفرق كلمتهم، اللهم نكس راياتهم، وأذل أعناقهم، وسود وجوههم، اللهم أبطل مكرهم، اللهم رد كيدهم في نحورهم، اللهم إنا نعوذ بك من شرورهم، وندرأ بك اللهم في نحورهم، اللهم أنزل بهم سخطك وعذابك وبأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا قوي يا عزيز، يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء! اللهم رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين، والأسرى والمسجونين، والمشردين والمبعدين.

اللهم رحمتك بالصبية اليتامى، والنسوة الثكالى، والأطفال الرضع، والشيوخ الركع، اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، اللهم قرب فرجهم، ونفس كربهم، وفرج همهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، اللهم إنهم حفاة فاحملهم عراة فاكسهم، خائفون فأمنهم، جائعون فأطعمهم، مشردون فسكنهم، اللهم ارزقهم الصبر على البلاء، والرضا بالقضاء، اللهم اجعل ما قضيت زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين.

عباد الله: صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:٥٦]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي، وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين! والحمد لله رب العالمين.