العاطفة الثانية وهي ذات خطب عظيم وكبير وهي: عاطفة الحماسة: وقد سلف لنا في حديث الهجرة وواقع الدعوة كلام يمس هذا الجانب في إطاره العام، فإن الحماسة عاطفة طيبة، وهي عاطفة الغيرة الإيمانية التي امتدحها النبي صلى الله عليه وسلم وقال:(أتعجبون من غيرة سعد؟ فوالله! إني لأغير منه) وكان النبي عليه الصلاة والسلام لا يغضب لشيء إلا أن تنتهك محارم الله عز وجل فلا يقوم لغضبه صلى الله عليه وسلم قائم.
هذه العاطفة من النصرة للمسلمين والغيرة على هذا الدين والحمية ضد أعداء الإسلام والمسلمين عاطفة عظيمة جداً، وهي أساس من أساسيات قوة إيمان المسلم، ولكن هذه الحماسة قد تندفع فتطغى ويأتي من ورائها كثير من الأضرار والمخاطر.
وقد يقول قائل أيضاً في جانب آخر: لابد أن نضبط العاطفة الحماسية، ولابد أن نقيدها، ولابد أن نروضها، ويبالغ في هذا حتى يئدها ويقتلها، فنقول له: لا، نحن لا نريد للجمرة أن تنطفئ، لكننا نريد أن يبقى فيها بقية الجمر حتى إذا تدحرجت في الوقت المناسب أشعلت تلك الأوراق أو الأخشاب أو الهشيم أو الحصير الذي تلامسه، فتشعله، فيؤدي ذلك الاشتعال إلى المطلوب، لكن تلك الحكمة التي يزعمها بعض الناس ويريدون أن يطفئوا جذوة الحماسة، وأن يجعلوا أجيال الإسلام وشباب الدعوة راكنين إلى الدنيا مطمئنين إلى ملذاتها، يشربون بارد الشراب، ويأكلون طيب الطعام، ولا تتحرك نفوسهم غيرةً ولا غضباً ولا حمية لدين الله، لا في كلمة حماسيه ولا في غيرة إيمانية ولا في إنكار منكر، هذا ليس مطلوباً.
وفي الجانب الآخر ليس مطلوباً ذلك الاندفاع الذي يؤدي بالدعوة إلى المخاطر والمهاوي فيما يتعلق بمواجهة الأعداء أو بظروف الضغط والاضطهاد والتعذيب والمطاردة والملاحقة للدعوة والدعاة، فإن للمسلم أموراً كثيرة: أولها: أنه منضبط بضابط الشرع؛ فليس هو متصرفاً بردود الأفعال، وليعلم ما قاله الصحابة في بيعة العقبة للنبي عليه الصلاة والسلام: لو شئت أن نميل على أهل الوادي ميلةً واحدةً لفعلنا، فقال:(كلا! فإنا لم نؤمر بذلك)، وليعلم كيف روض النبي صلى الله عليه وسلم تلك العاطفة المتدفقة في عمر رضي الله عنه يوم الحديبية لما قال:(يا رسول الله! ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ قال: بلى، قال: فعلامَ نعطي الدنية في ديننا؟)، إنها عاطفة صادقة لم ينكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعبها على عمر، ولكنه قال:(إني رسول، وإنه لن يضيعني) فذهب إلى أبي بكر ليرى رجاحة العقل واستقرار النفس، وقال له مقالة النبي عليه الصلاة والسلام، فقال أبو بكر:(الزم غرزه؛ فإنه رسول الله)، ذلك هو الفرق بين رجاحة العقل وسكون النفس عند أبي بكر؛ فلم تجمح به العاطفة ولو في إطارها المقبول.
وتلك العاطفة المتدفقة من عمر رضي الله عنه لم تنطلق من إيثارها، بل رجعت على أعقابها بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا فقد وقع في نفوس الصحابة أمر عظيم يوم الحديبية، ولست في صدد ذكر الأحداث، ولكن لما جاء أبو جندل يرسف في قيوده، والمسلمون على بعد خطوات منه، وهو يستنجد بهم ويصرخ، ويريد أن يلتحق بهم، وأن يخرج من هذا الاضطهاد، وهم الذين خاضوا المعارك، وضحوا بالشهداء، ويرون هذا المظهر أمام عيونهم، لكنهم ينضبطون، ويلتزمون حكم النبي عليه الصلاة والسلام، ويقع في نفوسهم أيضاً أنهم عندما أمرهم عليه الصلاة والسلام أن يحلقوا رءوسهم وأن يتحللوا من عمرتهم فلم يستجيبوا في أول الأمر لما كان قد خالط القلوب والنفوس من همّ وغمٍ وكرب وضيق، فلما عمل النبي عليه الصلاة والسلام بمشورة أم سلمة فحلق ابتدروا يحلقون، حتى كاد يقتل بعضهم بعضاً، أو حتى سالت دماء بعضهم رضوان الله عليهم أجمعين.
فإذاً: لابد لهذه العاطفة المتأججة في الشباب ألا تستفز، وأن نعلم أن أعداء الدعوة يريدون لها أن تستفز، وأن تخرج عن إطارها، ليشوهوا صورة الدعاة، ويروا الناس أنهم متهورون، وأن تصرفاتهم هوجاء، وليست الحماسة المندفعة في التصرفات، بل في الكلمات؛ فأنت تسمع من الكلمات ما قد يكون أفتك وأخطر وأكثر هولاً من الأفعال؛ لأن الكلمات فيها أحكام، ولنا مع الكلمة جولة -إن شاء الله- كما سأذكر في آخر الحديث.