[خروج الرسول صلى الله عليه وسلم بجيوشه إلى مكة]
وأما الموقف الرابع فهو من المواقف المهمة أيضاً في واقعنا المعاصر: ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما مضى إلى فتح مكة دعا القبائل، وحث المسلمين على أن يخرجوا معهم، فخرجوا في جمع عظيم لم يخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبله مثله قط، بل ربما لم تشهد الجزيرة مثله قط، وقد مضى إليهم في نحو عشرة آلاف، وصف القبائل كل قبيلة مع بعضها، وكل قبيلة لها زعيمها ولها رايتها، وعندما جاء إلى فتح مكة وعسكر خارجها، وأضرم جيشه النيران بالليل، وجاء أبو سفيان في حماية العباس بن عبد المطلب، والعباس -أيضاً- ممن أعلن إسلامه فيما بين الحديبية وفتح مكة، والروايات تقول: إنه أسلم قبل ذلك، لكن لم يكن هناك عمل ظاهر من العباس يعلن به إسلامه إلا في هذه الفترة.
فجاء بـ أبي سفيان يردفه معه، وكان من فعل النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت أن استعرض الجيش، وكان الجيش يمر كتيبة كتيبة، وقد حبس أبا سفيان في بطن الوادي حتى يرى هذا الاستعراض العسكري العجيب، فكانت القبائل تمر وأبو سفيان يسأل: من هؤلاء؟ فيقول العباس: هؤلاء مزينة.
من هؤلاء؟ هؤلاء أسلم إلخ، فقبائل العرب كلها قد كان الإسلام قد فشا فيها ودخل في أبنائها، وأبو سفيان ينظر بتعجب وبرهبة وبشيء من التعظيم والإجلال، وهو ما يزال يرى هذه الفرق والكتائب تتابع، حتى مرت الكتيبة الخضراء، وكان جنودها يلبسون الدروع ويلبسون الأقنعة، لا يرى منهم إلا العيون من أحداقها، وكان ذلك قصد من الرسول عليه السلام، فلما رأى أبو سفيان هؤلاء قال: من هؤلاء؟ قال له العباس: هؤلاء كتيبة المهاجرين والأنصار من جند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال أبو سفيان كلمة عظيمة، قال: والله ما لأحد بهؤلاء قبل! أي: هؤلاء لا يمكن أن يواجههم أحد، فهذا جيش لا يمكن أن يثبت ولا أن يصمد أمامه ولا أن يواجهه أحد، والهدف الأعظم هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يدخل الرعب في قلوب كفار قريش حتى يهزموا هزيمة نفسية، وحتى لا يقاتلوا ولا يواجهوا، تعظيماً من النبي صلى الله عليه وسلم لحرمة البيت، وحفاظاً على حرمة مكة المكرمة.
وهنا نستحضر قول الله عز وجل: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:٦٠] فامتلاك المسلمين للقوة أمر مطلوب، لا لمجرد الدفاع عن أنفسهم، بل لإرهاب أعدائهم حتى يكون ذلك توطئة لأمور عدة، من أهمها أن لا يفكروا في العدوان على الإسلام وأهله، ولذلك ذكر الفقهاء أن من واجبات الإمام أن يغزو بالمسلمين ولو في كل عام مرة، ومن واجباته تأمين الثغور، لماذا؟ قالوا: لأنه إذا لم يكن ذلك كذلك تجرأ الأعداء فاعتدوا على بلاد المسلمين، وانتهكوا بيضة الإسلام وأهله.
ومن هنا نرى أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يبين في هذا الموقف أن المسلمين لا تعوزهم القوة، ولكن هنا نقطة مهمة، وهي أن القوة عند أهل الإسلام مأمون شرها وضررها، فلا تستخدم إلا فيما يحقق الخير والمصلحة العامة للخلق، حتى وإن كان فيها قتل وقتال فإنها تقتل الأشرار، وتقتل البغاة، وتقتل المعتدين، وتقتل الذين يجترئون على دين الله عز وجل، وتقتل الذين يصدون الناس عن دين الله عز وجل، فلماذا نرى في عالم اليوم أن القوة محرمة على المسلمين وأنها مملوكة لغيرهم، مع أن غيرهم قد أثبت الواقع أنه استخدمها في كل ما هو محظور ومحرم، لا في ديننا وإنما في الشرائع والأنظمة التي يقولون: إنها دولية أو عالمية.
وهذا كله ثابت في واقع الناس، ولكن حقيقة الأمر أنّ المراد أن لا يكون عند المسلمين قوة يستطيعون بها الامتناع من عدوهم ومواجهة خصومهم، فضلاً عن أن يكون ذلك سبباً في إرهابهم لأعدائهم أو قدرتهم على الانتصار عليهم.
ونحن نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بأسباب القوة والقتال في صور شتى، ومنها أنه بعد فتح مكة استعمل في الطائف لأول مرة ما عرف بعد ذلك بالمنجنيق، وهي الآلات التي تقذف الحصى، أو تقذف كتلاً من النيران إلى مسافة تبلغ الحصون التي كانت في ذلك الوقت، فأخذ النبي عليه الصلاة والسلام هذه الأسلحة، لماذا؟ لأخذه بأسباب القوة وحصول المقصود والغاية، وهذا أمر مهم، فنحن قد قلنا من قبل: إن الواقع يثبت لنا أن العدوان وأن القتلى وسفك الدماء وانتهاك الأعراض وهدم البيوت وكل المحرمات في الأعراف الدولية -كما يقولون- فضلاً عن الأحكام الشرعية عندنا إنما وقعت بكثرة كاثرة في قديم التاريخ وحديثه، وفي واقع اليوم من قبل غير المسلمين، وإن وقعت من المسلمين فإن نسبة ذلك لا تذكر بالنسبة لما وقع من غير المسلمين، سواء في ذلك العدوان الذي نعلمه لعقود متطاولة في فلسطين، أو العدوان قريب العهد على أفغانستان والعراق، أو العدوان السابق لذلك في البوسنة والهرسك، أو في غير تلك البقاع المختلفة، فإنا واجدون ذلك كذلك واضحاً وبيناً.