[العلاقة بين الصوم والإنفاق]
أيها الأخ الحبيب! ونحن نستقبل موسم التقوى نؤكد على هذه الصلة الوطيدة بين الصيام والإنفاق والجود، ولقد كان المثل الأعلى سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، فهو الذي يكشف لنا عن حقيقة هذا التلازم وهذا الترابط الوثيق بين رمضان والصيام وبين الإنفاق والصدقة، ففيما روى ابن عباس رضي الله عنهما، (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس)، فهل هناك تعبير أبلغ من هذا؟ هو أجود الناس، أي: بلغ الرتبة العليا في الكرم والجود والسخاء.
ما قال لا قط إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاؤه نعم (كان أجود الناس) هذه المرتبة العليا، فهل بعد ذلك من شيء؟ لا.
قال: (وكان أجود ما يكون في رمضان) أي: يزداد جوداً إلى جود، وكرماً إلى كرم، وعطاءً إلى عطاء، وسخاءً إلى سخاء.
(فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة) تعبير بليغ.
(الريح المرسلة) أي: المطلقة.
فهل تتقسط؟ وهل تأتي شيئاً فشيئاً؟ إنها تأتي مندفعة قوية هادرة، وكذلك كان هذا الوصف لجود المصطفى صلى الله عليه وسلم، وللأسف الشديد كذلك نذكر المال الذي ينفق على عكس مراد الله، وعلى عكس هذه الصورة المشرقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، الإنفاق للصد عن الدين ولإغراق المسلمين في الغفلة والهوى والشهوة، كما أسلفت في ذلك، وينبغي أن ننتبه إلى قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً)، وأخبرنا الحق جلا وعلا فقال: {أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة:٢٦٧]، والكسب الخبيث الذي نرى صوره -كما قلت- معلنة محرم مقطوع بحرمته ليس فيه خلاف، وليس هناك تشدد بالقول بحرمته؛ لأن الآيات بذلك نطقت، والأحاديث بذلك شهدت، ومع ذلك نرى صوره كل عام تتكرر وتزداد، ولعلنا نستحضر أمراً وإن كان الفارق موجوداً، لكننا نقوله حتى نتعظ ونعتبر: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال:٣٦]، هذه صورة لأهل الكفر.
وللأسف أن بعض أهل الإسلام يوافقونهم في ذات العمل: {يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} تكون العاقبة مشابهة {فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:٣٦]، نسأل الله عز وجل السلامة.
وقال تعالى: {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران:١١٦]، هذه صور خطيرة نحذر منها كل من يشارك فيها، وكل من يسعى لها، حتى المتصل إذا اتصل بهذه القنوات الفاسدة التي تستخدم الطرائق المحرمة والتي فيها ما فيها، فهو يسهم كذلك بمال في جانب وعمل وميدان محرم فيكون مشاركاً في الإثم، نسأل الله عز وجل السلامة: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:٥٥]، وقد اشتكى وشكا موسى عليه السلام من ذلك الحال الذي كان عليه فرعون قوة ومالاً، ثم دعا دعاءه الشهير: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ} [يونس:٨٨]، وهذه الدعوات التي نسأل الله عز وجل أن تنصرف عن كل من يتذكر ويتعظ ينبغي أن يحذر منها الغافلون والسالكون في هذه المسالك الخطيرة ذات العواقب الوخيمة، نسأل الله عز وجل السلامة.
والحق جل وعلا يقول: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة:٢٧٦]، فلن يزداد الخير ولن يضاعف أجر، ولن تكون بركة إلا فيما هو في مرضاة الله، وأما كل ما هو زيادة فيما هو من الحرام فإنها زيادة سحت له عاقبة في الدنيا قبل الآخرة، وأظن الشواهد عند كل أحد كثيرة، ويكفينا في ذلك الوعيد الشديد الوارد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم المروي من طرق شتى: (كل جسم)، وفي رواية: (كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به).
نسأل الله عز وجل السلامة.
وتأمل كيف كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كما في حديث ابن مسعود في البخاري قال: (لما نزل فضل الصدقة كنا نحامل) أي: ليس عندنا مال.
ومن ليس عنده مال فليس عليه زكاة، ولا تطلب منه الصدقة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصدقة ما كان عن ظهر غنى)، يعني: بعد أن تستغني تصدق بما يزيد.
لكن الصحابة المحبين للخير الراغبين في الأجر يقولون: (كنا نحامل) أي: يعمل أحدهم حاملاً، فيحمل حتى يأخذ أجراً.
لماذا يأخذ هذا الأجر؟ هل ليوسع على أهله وليدخر قرشه الأبيض ليومه الأسود؟ كلا.
إنما يريد أن يحصل على شيء من المال لكي ينفق فيكتب من المتصدقين ويكون من المنفقين، فإذا كان هذا فما حال الذين عندهم فائض ثم لا ينفقون ولا يكتبون في هذا الباب؟ وحديث أبي سعيد الخدري يدل على ذلك: (من كان له فضل ماء فليعد به على من لا ماء له، من كان له فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، من كان له فضل طعام فليعد به على من لا طعام له، قال: حتى ظننا أن لا حق لأحد منا فيما فضل من ماله).
فهذه فرصة عظيمة، وينبغي أن لا نجعل إنفاقنا في شيء مما حرم الله، وأن نسارع إلى تلك الميادين، نسأل الله عز وجل أن يوفقنا لطاعته ومرضاته.
اللهم! أنطق ألسنتنا بذكرك، وأملأ قلوبنا بحبك، واجعل أقدامنا ساعية لطاعتك، وأيدينا منفقة في سبيلك، وجباهنا ساجدة لعظمتك، وألسنتنا مسبحة بحمدك.
اللهم! سخر جوارحنا لطاعتك، واستخدمنا لنصرة دينك، واجعلنا -اللهم- ستاراً لقدرك في نصر الإسلام والمسلمين.
اللهم! وفقنا للصالحات، واصرف -اللهم- عنا الشرور والسيئات، واغفر لنا -اللهم- ما مضى وما هو آت.
اللهم! إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة.
اللهم! أحسن ختامنا وعاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
تول -اللهم- أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا اللهم فيما يرضيك آمالنا.
اللهم! أنزل علينا الرحمات، وأفض علينا البركات، وضاعف لنا الحسنات، وامح عنا السيئات، وارفع لنا الدرجات، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا يا رب الأرض والسماوات.
اللهم! إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم أن نلقاك وأنت راضٍ عنا يا أرحم الراحمين.
اللهم! اجعل آخر كلامنا من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، توفنا على الإسلام، وابعثنا على الإيمان، واجعلنا -اللهم- هادين مهديين، راضين مرضيين، واجعلنا -اللهم- من عبادك الصالحين، واكتبنا في أهل الجنة يا رب العالمين.
اللهم! بلغنا شهر رمضان، ووفقنا فيه للطاعات والصالحات، واصرف عنا فيه الشرور والسيئات يا رب العالمين.
اللهم! اجعل بلدنا آمنا رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح -اللهم- أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
ووفق -اللهم- ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء.
اللهم! أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، يا سميع الدعاء.
مكن -اللهم- في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، وانشر رحمتك على العباد، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم! أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه إلى كل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء.
اللهم! عليك بسائر أعداء الدين؛ فإنهم لا يعجزونك، أحصهم -اللهم- عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، ورد كيدهم في نحرهم، واشغلهم بأنفسهم، واقذف الرعب في قلوبهم، واجعل الخلف في صفوفهم، وزلزل الأرض تحت أقدامهم، وخذهم أخذ عزيز مقتدر يا رب العالمين.
اللهم! لا ترفع لهم راية، واجعلهم لمن خلفهم آية، يا قوي يا عزيز.
يا منتقم يا جبار.
أنزل -اللهم- بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، واشف -اللهم- فيهم صدور قوم مؤمنين عاجلاً غير آجل يا رب العالمين! اللهم! رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين والمشردين والمبعدين والأسرى والمسجونين والجرحى والمرضى في كل مكان يا رب العالمين! فرج اللهم همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، واجعل ما قضيت عليهم زيادة في الإيمان واليقين، واجعل لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء.
اللهم! احفظ بلاد الحرمين من كل سوء ومكروه، احفظ -اللهم- عليها أمنها وإيمانها، وسلمها وإسلامها، ووسع رزقها ورغد عيشها يا أرحم الراحمين.
اللهم! انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين.
اللهم صلِ وسلم وبارك على نبيك محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين.