يعجب المرء حقيقة من المبالغات التي تدل على نوع من الخفة وسذاجة التصور، أو تدل أحياناً على نوع من الغش للآخرين، فإنك تسمع مبالغة فجة لا تقبلها العقول السليمة، فإن هناك من يقول: ألم تسمع محاضرة كذا وكذا؟ لا يمكن أن تسمع في حياتك مثلها لا قبلها ولا بعدها.
أو كتاب كذا؟ لا يمكن أن يكون هناك أفضل منه على الإطلاق، وكذلك لا يمكن أن تجد أعلم في العالم كله من فلان أو فلان.
وغير هذا من الإطلاقات، أما فلان فكذا وكذا، أما الأمر الفلاني فهو كذا وكذا، وفي المقابل أيضاً ذم مطلق.
إن الإطلاق العام يدل على عدم البصيرة والوعي والعلم، مع أن الإسلام دعا إلى التثبت والانضباط، حتى في الأمور التي تتعلق بالكفرة من يهود أو نصارى نجد الاستثناء فيها وارداً، كما في قصة يعقوب عليه السلام قال:{إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ}[يوسف:٦٦] مع أنه قد كان مجروحاً مكلوماً في نفسه، ومع أنه قد سلفت له معهم تجربة، لكنه قال:{إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ}[يوسف:٦٦] أما الإطلاقات العامة التي ليس لها ضابط ولا حد ولا قيد فاعلم أنها من خطأ اللسان ومن خطأ الكلمة؛ إذ لابد من وضع الأمور في نصابها، وهذه المبالغات تفقد الناس القدرة على التمييز، فيتعودون على التهويل، فما يقبل أبداً الكلام المعتدل المتزن، فتقول -مثلاً-: فلان له كتاب جيد فيعتبر هذا الكلام ليس تزكية، وليس إشارة إلى الفائدة التي فيه إن لم تقل عنه: إنه جيد في غاية الجودة ونافع في غاية النفع وكذا.
فإنه لا يدرك من كلامك أنك أعطيته تقويماً تريد منه أن ينتفع به؛ لأنه تعود على مثل هذه المبالغات، وكذلك لو قلت له: فلان تقي.
وحسبك بهذه الكلمة تزكية، لكنها لا تكفيه، لابد من أن تقول له: إنه أتقى الأتقياء، وما رأيت أعبد منه، وما وقعت العين على مثله.
وكذا وكذا من هذه الأمور التي قد قالها بعض أهل العلم في أئمة أجلاء كبار، ومع ذلك نقدوهم وذكروا مما يظنونه خطأً في أقوالهم، كما قال الذهبي: ما رأت عيني مثل ابن تيمية رحمة الله عليه، ولا رأى مثل نفسه.
ومع ذلك فقد كتب رسالة مطولة ذكر فيها بعض ما رأى من المسائل مخالفاً فيه رأي شيخه، لكن هذه المبالغات -سيما في جانب التزكيات- تحدث هذا الاضطراب بين الشباب، كما أنها أيضاً تحدث أحياناً غشاً، فإنك عندما تبالغ تعطي صورة غير صادقة فينخدع بها غيرك، وقد تكون قلتها عن عاطفة، لكن هذه العاطفة لا تكفي مبرراً ومسوغاً لعدم ضبط هذه الكلمات.