[ضرورة التنوع والتوزع في العلوم الشرعية الكفائية]
النقطة الثانية: هي التوزع والتنوع.
بعد أن يعرف المسلم العلم من فرض عيني وكفائي، نقول: إن في الكفائي ما يحتاج إلى تنوع وتوزع، فلو سمعت من ينتدب لعلم الحديث على سبيل المثال يقول لك: إن علم الحديث ومعرفة الصحيح من الضعيف هو أهم المهمات وأولى الأولويات، ويذكر لك ما هو صحيح في نفس الأمر، فإذا بكثير ممن يسمعونه يتوجهون إلى قوله، ونرى أن جلّ طلاب العلم توجهوا ليكونوا محدثين، ولم نجد بعد ذلك فقيهاً يستنبط لنا مما رواه هؤلاء الكثرة الكاثرة من الرواة.
أو قد تجد من يقول لك وهو محق في ذلك: إن علم الاعتقاد والتوحيد هو أساس كل شيء وأوله ومبدؤه، وبتوجيهه هذا يجعلك تظن أن التشريعات والتفصيلات والردود في هذا العلم أولى بك من أن تعرف علم تفسير كتاب الله عز وجل، أو فقه الأحكام الشرعية، أو صحة الأحاديث النبوية، فيختلط الأمر عليك مرة أخرى.
أقول: لابد من أن يتوسع طلبة العلم سيما في مجال التخصص، وأن يكون التوسع على العلوم الشرعية المهمة اللازمة التي أوجز ذكرها -كما أشرت- ابن القيم رحمة الله عليه، بدءاً بعلوم التوحيد والإيمان ومروراً بعلوم الفقه والسنة والتفسير وهذه الجوامع الكلية المهمة.
إذاً: نحذر نظرة التركيز التي تطغى فيها العبارات بحيث إذا مدح أي علم ما فكأنه لا أهمية ولا نفع ولا فائدة في غيره من العلوم؛ لأننا نجد أن كل صاحب تخصص حتى في غير علوم الشريعة يقول لك ذلك، فصاحب علم الرياضيات يقول لك: كل الناس يفتقرون إلى الرياضيات، ومثل ذلك الذي يبني البناء، والذي يريد أن يطبب المرضى، والذي يريد أن يطير في الجو، والذي يريد أن يغوص في البحر، والذي يريد أن يحارب في المعارك إلى آخر ذلك، وهكذا كل صاحب علم يشيد بعلمه، لذلك لا ينبغي أن تكون النظرة بهذا الشكل، بل ينبغي إعطاء كل علم أهميته، وأن يشيع بين شباب الصحوة نوع من التوزع والتنوع على فروض الكفايات، فإن التوسع والتفصيل في كثير من المسائل والعلوم ليس واجباً على العين، لكن لا شك أنه واجب على الكفاية، وأنه في حق الداعية وطالب العلم وشباب الصحوة ألزم وأوجب.
إذاً: ينبغي أن يكون هناك مثل هذا التنوع والتوزع؛ لأنه قد يقع اللوم والنقد بين أهل العلم وغيرهم، فالذين رأوا نصرة الإسلام وخدمته في الجهاد العسكري البحت نظروا إلى كل من تفرغ لطلب العلم أو سار في طريق الدعوة نظرة ازدراء واحتقار، وأنه مقصر في خدمة دين الله عز وجل، وأنه لاه عابث لا يقدم شيئاً لهذه الأمة، وقد تكون نظرة الذي يدعو أو يتعلم إلى ذلك نظرة ازدراء واحتقار وأنه ليس له جَلَدٌ في طلب العلم ولا في الدعوة، وإنما همه أن يذهب هنا وهناك مع كل صيحة جهاد.
والحق أن كلاً على خير؛ لأن التنوع والتوزع هو الذي تحتاج إليه الأمة؛ ليكون لها في كل مجالاتها جهاد علمي وجهاد دعوي وجهاد تربوي وجهاد عسكري وجهاد فكري، فإن كل ذلك مندرج في أسباب القوة التي تتقوى به الأمة في داخل صفوفها، وتتقوى به كذلك في مواجهة أعدائها، ومن جميل ما قاله ابن القيم رحمة الله عليه: إنما جعل طلب العلم من سبيل الله؛ لأن به قوام الإسلام، كما أن قوامه بالجهاد فقوام الدين بالعلم والجهاد، فالعالم وطالب العلم كذلك يقومان بدور الجندي المجاهد وقائد الجيش، فشيخ العلم كقائد الجيش، وطالب العلم كجندي الجيش، كلاهما يجاهد في نصرة دين الله عز وجل.
وتأمل بقية قول ابن القيم فإنك ناظر في ذلك فقهاً دقيقاً ومعرفة رشيدة، وإحاطة بمقاصد هذا الدين فريدة وعجيبة، يقول: ولهذا كان الجهاد نوعين: جهاد باليد والسنان وهو الجهاد العسكري، وهذا المشارك فيه كثير.
والثاني: جهاد بالحجة والبيان وهذا هو جهاد الخاصة من أتباع الرسل وهو جهاد الأئمة، وهو أفضل الجهادين؛ لعظم منفعته وشدة مؤنته وكثرة أعدائه، قال الله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا * فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان:٥١ - ٥٢] فهذا جهاد بالقرآن وهو أكبر الجهادين، وهو جهاد المنافقين أيضاً، فإن المنافقين لم يكونوا يقاتلون المسلمين بل كانوا معهم في الظاهر، وربما كانوا يقاتلون عدوهم معهم، ومعلوم أن جهاد المنافقين بالحجة والقرآن.
ثم قال: والمقصود أن سبيل الله هي الجهاد وطلب العلم ودعوة الخلق به إلى الله.
فإذاً: لابد أن نعرف أن كل جانب من الجوانب هو ثغرة من الثغرات يجب سدها، وأن كل ميدان من الميادين هو افتياد يجب أن ينتدب له من أبناء الأمة وشبابها الصالحين من يبدع فيه ويتفرغ له، ولا يعيبن أحد على أحد صنيعه إلا إن كان يرشده إلى الكمال أو التتميم، فإن الاستغناء بأمر دون الآخر أو النظر إلى أمر على أنه يشمل كل شيء وغيره يسقط كل شيء، فهذه النظرة خاطئة فيها مبالغات ومجازفات، فالذي يجاهد ينظر إلى غيره على أنه لا يصنع شيئاً، والذي يطلب العلم يرى أن غيره يلعب ويلهو، هذا كله قصور نظر وقلة فقه وعدم بصر وإدراك بحقيقة هذا الدين وشموله وكماله.