للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[رعاية المساواة]

المساواة صارت كلمة تصم آذاننا كل يوم صباح مساء، لكنها لا تذكر إلّا ومعها معركة، إلّا ومعها استلاب حقوق، وتجاذب أدوار، ونحن نراها أصلاً ثابتاً، ومنهجاً متكاملاً في دين الله عز وجل، فرعاية المساواة جاء بها الإسلام في جانبها التماثلي على أكمل وأتم الوجوه.

فهناك مساواة بين الرجل والمرأة في أصل الخلقة كما ذكر الله عز وجل، ونذكره دائماً في مقدمة كل خطبة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً} [النساء:١].

قال ابن عطية في تفسيره: (مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) أي: من جنسها.

وقال السعدي في تفسيره: (وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا) أي: ليناسبها، فيسكن إليها، وتتم بذلك النعمة، ويحصل به السرور، وفي الإخبار بأنه خلقهم من نفس واحدة، وأنه بثهم في أقطار الأرض مع رجوعهم إلى أصل واحد؛ ليعطف بعضهم على بعض، وليرق بعضهم لبعض.

وفيها -أي: في الآية- دلالة على أنه كما يلزم القيام بحق الله، كذلك يجب القيام بحق الخلق والأقرب فالأقرب ممن تربطنا به صلة الرحم.

فهذه آية عظيمة في أصل مساواة الخلقة، فالكل من نفس واحدة، والمراد هنا: أن الله جل وعلا خلق حواء من آدم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: (إن المرأة خلقت من ضلع آدم) قال بعض أهل العلم: أي: أن أصل خلقة آدم من تراب، وأصل خلقة حواء -من حيث الجسد- من ضلع آدم، وأما من حيث النفس والروح فهما أصل واحد، فلا خالق للروح إلا الله عز وجل، وهو الذي جعل هذه الروح بعد ذلك في ذرية آدم وحواء بقدره وقدرته سبحانه وتعالى، فليس ثمة فرق بين روح رجل وامرأة من حيث الحياة، ومن حيث أصل الخلقة.

وذلك ما شهدت به الآيات، وبينته الأحاديث النبوية، فالله جل وعلا يقول: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى * مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} [النجم:٤٥ - ٤٦]، وذلك فيما تناسل به البشر من بعد آدم وحواء وذريتهما إلى قيام الساعة.

وهناك أيضاً مساواة في غاية الخلق، فإذا كانت هناك مساواة في أصل الخلق بين الرجل والمرأة، فأظهر منها وأجل المساواة في غاية الخلق: لِمَ خلق الرجل؟ ولِمَ خلقت المرأة؟ فليس هناك للرجل غاية أشرف ولا أعظم ولا مخالفة لغاية المرأة، قال الله جل وعلا: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:٥٦]، فما خلق الجنس البشري ذكوراً وإناثاً إلّا لتحقيق العبودية لله سبحانه وتعالى، وقال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:٢]، فالغاية من الحياة هي الابتلاء والامتحان والتمحيص؛ ليظهر الأعظم والأجل في عبادة ربه، وإحسان عمله، وإخلاصه لمولاه سبحانه وتعالى، رجلاً كان ذلك أو امرأة.

وكذلك خلافة الأرض وعمارتها هي مسئولية وغاية مشتركة بين الرجل والمرأة، قال الله جل وعلا: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:٣٠]، والمقصود بذلك آدم عليه السلام، لكنه يشمل ما هو أعم من ذلك وهم ذريته رجالاً ونساءً، فهم الذين يقومون بعمارة الأرض وذلك بإقامة شرع الله، وتحقيق مراده من خلقهم في هذه الحياة الدنيا، كما تظهره هذه الآيات العظيمة، وكما تبينه الآيات الأخرى الكثيرة في هذا الشأن، وكما في قوله جل وعلا: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} [الجاثية:١٣] والخطاب يعم البشر جميعاً رجالاً ونساء.

فنحن في مبدأ الإسلام ومنهجه لا نعرف للمرأة دوراً يستثنيها من أن تكون عابدة لله عز وجل، وقائمة بعمارة الأرض، ومنتفعة بما ذلله الله عز وجل وسخره من الأسباب مع شريكها الرجل لقيام العمران، ولإقامة الحياة الدنيا على أساس من القيم، وعلى ارتباط بالمبادئ والفضائل التي تكسب الحياة حينئذ جمالين وكمالين: في الناحية المادية الدنيوية الحضارية المدنية، وفي الناحية الإيمانية العقدية المبدئية المعنوية؛ فيحصل حينئذ كمال هذه الحياة في جانب الروح والقلب والفكر، وفي جانب البدن والشهوة واللذة المباحة بإذنه سبحانه وتعالى.

ومن أصول المساواة أيضاً تكريم الخلق، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء:٧٠]، والتكريم هنا يشمل جنس بني آدم ذكوراً وإناثاً، ثم إن الله جل وعلا أظهر ذلك وبينه في أن النفس البشرية -وخاصة المؤمنة- معظمة محترمة، ولذا جاء الإسلام بأعظم تشريع في الحفاظ على الحياة الإنسانية، وعلى رعاية حقوق الإنسان ونفسه المعصومة في أصل الخلقة ابتداءً، إلا أن يجنح إلى المخالفة بترك الإيمان ومعارضة أهله وحربهم، فالله جل وعلا يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} [الإسراء:٣١]، وخص الله جل وعلا النظر إلى الأنثى نظرة دونية بمزيد من العناية والرعاية؛ لمنع ما تميل به الفطر المنحرفة، وما تمليه الوقائع الجاهلية في شأن المرأة، فقال سبحانه وتعالى في وصف يشتمل على معنى الذم: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} [النحل:٥٨ - ٥٩].

وينكر الله جل وعلا ذلك ويذمه ويحرمه ويمنعه؛ ليبقي أصل كرامة الخلقة والفطرة والإنسانية فيما جعله الله عز وجل لها بصفة عامة، وما جعلها لها في مراتب أعلى وأسمى بسمت الإيمان والإسلام الذي تأخذ وتتفق به مع أصل الخلقة في الفطرة السوية.

ومساواة أخرى كذلك في المسئولية والتكليف، فليست المرأة دون الرجل في ذلك، قال تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:١٩٥] وهذه الآية عظيمة، وهي تبين أن المسئولية في التكليف، وأن العمل والقيام بالواجبات والفرائض، أمر يستوي فيه الرجال والنساء معاً، وأن الحساب ثواباً وعقاباً يترتب على عمل الرجل والمرأة على حد سواء، فليس للرجل تكليف خاص به إلا ما سيأتي من تخصيص يتناسب معه، لكنه ليس له تكليف لكونه رجلاً مكرماً، أو مرفوع القدر عن المرأة، وليس العكس كذلك.

وهذه مسألة مهمة أوجز النبي صلى الله عليه وسلم -فيما أوتيه من جوامع الكلم- تصويرها في قوله: (النساء شقائق الرجال) فالأمر بينهم شقان معتدلان، وكفتان متساويتان فيما سبق من أصل الخلقة والغاية من الخلق وفي أصل المسئولية والتكليف، فكل مطالب بالإيمان، وأداء الفرائض، والقيام بالواجبات، وذلك بحسبه، والله سبحانه وتعالى قد ذكر في سياق آيات كثيرة الرجال والنساء فقال: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ} [الأحزاب:٣٥] إلى آخر ما ذكر الله عز وجل من أوصاف وعبادات ذكر فيها الذكور والإناث، ثم ختم الآية بأنه أعد لهم الأجر العظيم على ذلك كله، وقد ورد في سبب نزولها أن بعض النساء كـ أم سلمة رضي الله عنها جاءت تسأل وتقول: (يا رسول الله! ما بال الله جل وعلا يذكر الرجال ولا يذكر النساء؟)! فنزلت هذه الآية، وإن كان معلوماً في لغة العرب أن الخطاب قد يأتي بصيغة المذكر ويكون للتغليب، وهو يعم الذكر والمرأة معاً، وشاهد ذلك قوله عز وجل: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:١٩٥] فذكر هنا الذكر والأنثى، ثم قال من بعد: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي} [آل عمران:١٩٥]، وذكر صيغة المذكر بعد أن ذكر المؤنت والمذكر معاً، مما يدل على أن صيغة التذكير تعود عليهما معاً.

وأصل آخر في المساواة أيضاً وهو المتعلق بالحدود والعقوبات، وهذا يدل على المساواة في التكليف، قال الله جل وعلا: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:٢]، وقال: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنْ اللَّهِ} [المائدة:٣٨]، فتظهر هنا في أمر الإخلال بالواجبات وارتكاب المحرمات المسئولية والتكليف على قدم المساواة.

وكذلكم فيما يتعلق بالشأن المالي قال الله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء:٤]، {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} [النساء:٢١]، فتلك أصول عامة في المساواة.