[خروج الداعية لدعوة الناس]
وقد ذكرنا أن الصياد لا يقبع في بيته بل يخرج، وتأمل هذه المقالات وهذه الأمثلة التي تنعي عليك جلوسك في بيتك، وقعودك عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتأخرك عن إرشاد الخلق، وعدم خروجك إليهم لتبصرهم بما هم فيه من الخطأ، وما يقعون فيه من الزلل: فهذا طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه وأرضاه أحد المبشرين بالجنة، يقول: إن أقل العيب على المرء أن يجلس في داره! وما أقواها من كلمة! فكيف بما هو أكثر من ذلك؟ ثم استمع إلى عطاء بن أبي رباح، من جلة التابعين، ومن أئمة علمائهم في مكة المكرمة، وهو يقول: لأن أرى في بيتي شيطاناً خير من أن أرى في بيتي الوسادة؛ لأنها تدعو إلى النوم! فانظر إلى فقه القوم كيف دفعوا الجسد للنهوض، وكيف أرادوا ألا تركن أنفسهم إلى الدنيا، وألا يظلوا منكمشين عن الناس، يحبسون العلم بصدورهم، ويحبسون الحكمة بأفواههم، فهذا التابعي الجليل كان يرى أن مخدة النوم التي تدعو إلى الكسل وإلى التثاقل وعدم الخروج، كان يراها أشد عليه من الشيطان الذي يخطر بينه وبين نفسه.
ثم تأمل أيضاً تلك المقالة من الغزالي القدير -رحمة الله عليه- وهو يقول: (اعلم أن كل قاعد في بيته أينما كان فليس خالياً في هذا الزمان عن منكر)، عن منكر من حيث التقاعد عن إرشاد الناس، وتعليمهم وحملهم على المعروف، فما دمت قاعداً في بيتك فلابد أن يلحقك نوع قصور وبعض إثم؛ لأنك ما خرجت لتعرف الناس وتصحح نهجهم.
ونمضي من بعد ذلك مع فعل النبي صلى الله عليه وسلم منذ أن بزغ نور الإسلام في أول صلة بين الأرض والسماء، من قول (اقرأ) الأولى، التي نزل بها جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم جاءته: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:٢١٤]، وجاء من قبلها {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:١ - ٢].
ولما نزل قول الله جل وعلا {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:٢١٤] خرج عليه الصلاة والسلام من بيته، ورقى الصفا وجعل ينادي: يا بني فهر! يا بني عدي! وجعل ينادي قريشاً بطناً بطناً، ثم يقول لهم عليه الصلاة والسلام: (أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً ببطن هذا الوادي تريد أن تغير عليكم، أفكنتم مصدقي؟ قالوا: ما جربنا عليك كذباً، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب أليم، فقال أبو لهب -عليه لعنة الله-: تباً لك، ألهذا جمعتنا؟!).
واسمع لهذا الحديث عند البخاري من رواية ابن عباس وعند أحمد بسند رجاله رجال الصحيح عن رجل من بني مالك بن كنانة -وهو صحابي، وجهالة الصحابي لا تضر- قال: (رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم بسوق ذي المجاز يتخللها، فيقول: يا أيها الناس! قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، وأبو جهل في إثره يحثو عليه التراب، ويقول: لا يغوينكم هذا عن دينكم، فإنما يريد لتتركوا آلهتكم، وتتركوا اللات والعزى)، فتأمل هذا النص وهو يقول: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوق ذي المجاز يتخللها)، يعني: ينطلق إلى المواسم، إلى الأسواق، يخرج إلى الناس، يلقاهم في مجامعهم، يغشاهم في مجالسهم، وتلك أول خطوة في السير، وأول خطوة في طريق الدعوة، وروى البخاري أيضاً من حديث أنس رضي الله عنه: (أن الصحابة من الأنصار جاءوا للنبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا له: لو أتيت عبد الله بن أبي رأس المنافقين -يعني: لو أتيته لتدعوه، ولعلهم كانوا يقصدون أنه قد يصد عن الدعوة إن لم يؤت إليه؛ لشرفه ومقدراه، فما استعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك- فقال: انطلقوا بنا إليه، وانطلق عليه الصلاة والسلام يركب حماره، وانطلق المسلمون معه يمشون، فقال ذلك المنافق عليه لعنة الله للنبي: إليك عني! والله لقد آذاني نتن حمارك، فرد عليه بعض الصحابة رداً غليظاً يكافئ قوله).
وشاهد الحال أن النبي صلى الله عليه وسلم انطلق إلى أهل النفاق لدعوتهم.
ثم انظر إلى النص الآخر، وهو عند البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كنا جلوساً في المسجد، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: انطلقوا إلى يهود، انطلقوا إلى يهود).
يستنهض الناس معه انطلاقاً وخروجاً إلى الناس في مجامعهم، فلما جاءهم ودخل عليهم، وهم في بيت المدراس أي: الذي يتعلمون فيه قال: (يا معشر اليهود! أسلموا تسلموا أسلموا تسلموا قالوا: بلغت يا أبا القاسم! قال: ذاك أريد.
ثم أعاد عليهم مرة أخرى فقال: أسلموا تسلموا قالوا: قد بلغت يا أبا القاسم!).
ثم قال: (اعلموا أن الأرض لله ورسوله، وإني أريد أن أجليكم، فمن وجد منكم بماله شيئاً فليبعه، وإلا فاعلموا أنما الأرض لله ورسوله).
فهكذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحرك، ولاقى القوم من كفار قريش في أسواقهم، ولاقى القوم من اليهود في مدارسهم، ولاقى القوم من المنافقين في تجمعاتهم، وخرج في كل حدب وصوب، وخرج إلى الطائف لما وجد البيئة المكانية غير ملائمة، فأراد أن يشق للدعوة طريقاً في موضع آخر، ثم لقي ما لقي من السخط والإعراض، وجاءه ملك الجبال -كما في البخاري في الصحيح- وقال: (لو شئت أن أطبق عليهم الأخشبين لفعلت، فقال: لا، لعل الله يخرج من أصلابهم من يؤمن بالله ورسوله).
فانظر عظيم الحرص على هداية الخلق، وانظر عظيم التعلق بالدعوة وعدم اليأس، وانظر إلى سعة الصدر، وطول النفس، وعظيم الصبر عنده صلى الله عليه وسلم.
ثم نرى ذلك نهج الصحابة رضوان الله عليهم، نهج أتباع محمد عليه الصلاة والسلام، والأمثلة في ذلك تطول، فـ عمر رضي الله عنه ما فتحت بلد من بلاد الإسلام إلا وأخرج إليها علماً من أعلام الصحابة رضوان الله عليهم، فبعث إلى الشام معاذ بن جبل وعبادة بن الصامت وأبا الدرداء، بعثهم لأهل الشام، وبعث لأهل الكوفة ابن مسعود رضي الله عنه معلماً ووزيراً.
ولم يكن ذلك شأن الصحابة فحسب، بل هو شأن من جاء بعدهم وسار على نهجهم، فإذا نحن مع سفيان الثوري أمير المؤمنين في الحديث رحمة الله عليه وهو يقول: والله لو لم يأتوني لأتيتهم في بيوتهم، يعني: أصحاب الحديث.
(لو لم يأتوني لأتيتهم في بيوتهم) فلا ينتظر الناس حتى يأتون إليه يطلبون العلم منه، وذلك شاهد حديث النبي صلى الله عليه وسلم، الذي أخبر أن مثله كمثل الغيث الذي أصاب أرضاً، فتنوعت هذه الأراضي التي جاءها ذلك الماء، فمنها ما هي قيعان سبخة لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً، ومنها ما تمسك الماء ولكنها لا تظهره، ومنها ما تمسك الماء وتنبت الكلأ، فتلك التي تعلي راية الحق وتصدع بقول الحق، وتوصل كلمة الحق إلى كل أحد، فذلك كان دأب القوم.
وتأمل في قصة مالك بن دينار التي يذكرها ابن الجوزي، وهو يبين لنا عظيم الفطنة والحركة في مسألة اصطياد الناس: يذكر أنه جاء لص إلى بيت مالك ليسرق منه، فدخل -ومالك من الزهاد ليس عنده من الدنيا قليل ولا كثير- فجعل يقلب، فإذا بالبيت ليس فيه ما يستدعي السرقة، وبصر به مالك فقال: يا هذا! أفاتك حظك من الدنيا؟ قال: نعم.
قال: فهل لك في شيء من الآخرة؟ قال: فماذا؟ قال: توضأ وصل ركعتين، ثم ما لبث أن أخذه لصلاة الفجر، فقال له بعض الناس: من هذا؟ قال: جاء ليسرقنا فسرقناه! فهذه هي الروح التي بها ينطلق الداعية، وينطلق بها الصياد الذي يصيد الخلق إلى طريق الحق، وكما قال الشاعر: إني رأيت وقوف الماء يفسده إن ساح طاب وإن لم يجر لم يطب والأسد لولا فراق الأرض ما افترست والسهم لولا فراق القوس لم يصب الذي يبقى في مكانه لا يحصل له شيء، وفي الحديث عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً).
إذاً: لابد من الحركة، ولا يمكن للإنسان أن يكسب رزقه في الدنيا وهو جالس في بيته، فكذلك لا يمكن أن يكسب أجره في الآخرة بإرشاده للناس وتبصيرهم وهو جالس في بيته لا يتحرك ولا يتقدم، ولذلك كان فقه القوم من أهل البصيرة يعتمد على أن الإنسان لابد له أن يغشى مجامع الناس، وأن يخالطهم، أما العزلة والانحسار وعدم الاحتكاك فهذا ذم ليس بعده ذم، ولذلك حتى المتأخرون ينبهون على ذلك، فهذا الرافعي الأديب -وهو قريب العهد بنا- يقول عن الذي انعزل عن الناس: يحسب أنه قد فر من الرذائل إلى فضائله، ولكن فراره من مجاهدة الرذيلة هو في نفسه رذيلة لكل فضائله، ثم يتابع فيقول: وماذا تكون قيمة العفة والأمانة والصدق والوفاء والبر والإحسان، إذا كانت فيمن انقطع في صحراء أو على رأس جبل؟! أيزعم أحد أن الصدق فضيلة في إنسان ليس حوله إلا عشرة أحجار؟! مع من يصدق؟! وكيف نعرف صدقه وهو لم يدخل مع الناس ليخبرهم أو يعاشرهم فيعرفون حاله؟! ثم قال: وايم الله؛ إن الخالي من مجاهدة الرذائل جميعاً لهو الخالي من الفضائل جميعاً! فلذلك لابد من فهم المبدأ الأول والأساس الأول: وهو أنه لابد أن تخرج، ولابد أن تخالط، ولابد أن تعاشر، ويكون غرضك في ذلك أن تصلح وأن توجه، وأن ترشد، ولذلك يذكر ابن القيم عن بعض السلف أنه كان يقول: يا له من دين لو أن له رجالاً! الدين موجود في القرآن وفي السنة، لكن من ينقله؟ ومن يطبقه؟ ومن يمثله في واقع الحياة؟ ومن يبشر به الناس؟ ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ} [النور:٣٦ - ٣٧] أي: ذوي الرجولة الكاملة.