[شهادة علي بن أبي طالب لأبي بكر الصديق]
الحمد لله عالم السر والنجوى، كاشف الضر والبلوى، مقدر الأقدار، ومقسم الأرزاق،، وكاتب الآجال، أحمده سبحانه وتعالى حمداً يليق بجلاله، وعظيم سلطانه، ويوافي فضله وإنعامه، وينيلنا رحمته ورضوانه، ويقينا سخطه وعذابه، له الحمد جل وعلا كما يحب ويرضى، على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، ختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله رحمةً للعالمين، وبعثه إلى الناس أجمعين، فهدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وكثرنا به من بعد قلة، وأعزنا من بعد ذلة، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم، واقتفى أثرهم، ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:١٠٢].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:١].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:٧٠ - ٧١] أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! كنت أقلب بعض صفحات التاريخ أبحث فيها عما يفيد اتعاظاً واعتباراً، فوافيت حدثاً يوافق يومنا وتاريخه، صفحة قبله طويت في تاريخ أمة الإسلام، وفتحت فيه صفحة أخرى في سجلات العظمة الإيمانية، وصفحات القيادة الإنسانية، ذلكم الحدث كان وفاة رجل عظيم من هذه الأمة، وبعده في صباح اليوم الذي يليه كان استقبال الأمة لقائد عظيم آخر.
ولا شك أن سير عظمائنا جليلة، غير أن عبر الوفاة كثيراً ما تكون أبلغ إذ مع آخر لحظات العمر، وفي آخر أنفاس الإنسان تتجلى خواطر نفسه، وتظهر حقيقته على وضوح وبينة من غير زخرفة أو بهرجة.
ولعلي أبدأ حَدَثنا الذي كان في الثاني والعشرين من شهر جمادى الآخرة من العام الثالث عشر للهجرة بهذه الكلمات التي قالها أيضاً عظيم من عظماء أمتنا، يشهد فيها لفقيدنا العظيم بجلائل الخصال، وعظائم الفضائل فقال: (كنتَ أول القوم إسلاماً، وأخلصهم إيماناً، وأشدهم يقيناً، وأعظمهم غناءاً، وأحفظهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحدبهم على الإسلام وأحناهم على أهله، وأشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم خلقاً وخُلقاً، وهدياً وسمتاً)، فجزاك الله عن الإسلام وأهله خيراً، وجزاك الله عن رسول الله خيراً).
ثم قال في شأنه وصفته: (كنتَ أقرب الناس إلى رسول الله، وأحبهم إليه، وصدقته حين كذبه الناس، وواسيته حين بخلوا، وقمت معه حين قعدوا، وأسماك الله في كتابه صديقاً {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر:٣٣] يريد محمداً صلى الله عليه وسلم ويريدك، وكنت والله للإسلام حصناً، وعلى الكافرين عذاباً، لم تقلل حجتك، ولم تضعف بصيرتك، ولم تجبن نفسك، كنت كالجبل الذي لا تزعزعه العواصف، ولا تزيله القواصف، كنت كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفاً في بدنك، قوياً في أمر الله.
ثم قال في شأنه: (وكنت في نفسك متواضعاً وعظيماً عند الله، جليلاً في الأرض وكبيراً عند المؤمنين، ولم يكن لأحد عندك مطمع، ولا لأحد عندك هوادة، والضعيف قوي عندك حتى تأخذ الحق له، اعتدل بك الدين، وقوي بك الإيمان، وظهر أمر الله، ولقد سبقت سبقاً بعيداً، وأتعبت من بعدك إتعاباًً شديداً، وفزت بالخير فوزاً مبيناً، فإنا لله وإنا إليه راجعون، رضينا عن الله عز وجل قضاءه، وسلمنا له أمره، فلا حرمنا الله أجرك، ولا أضلنا بعدك).
أحسب أنكم قد عرفتم أن فقيدنا هو الصديق أبو بكر رضي الله عنه، غير أني أحسب أن كثيرين منكم لا يعلمون أن هذه الكلمات الصادقة الناصعة هي كلمات أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ذلكم العظيم الذي يوجد في وفاته دروس عظيمة وجليلة؛ لأنه كان أعظم رجال مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم، وأجل خريجيها، وأكثر الواردين إليها، والناهلين منها، والمنتفعين بها، والممثلين لها، والذين حملوا رايتها، وثبتوا على مبدئها حتى آخر نفس من الأنفاس.