كان للإمام ابن القيم رحمة الله عليه في جانب العقائد منهج واضح بين، وهو مستفاد من منهج السلف رضوان الله عليهم ورحمهم الله تعالى أجمعين، فقد قرر منهجهم في كتبه، وكانت له في ذلك ملامح عامة يمكن إيجازها في الأمور الآتية: الأمر الأول: الاعتماد الكامل التام على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعندما نقول هذا يحسب بعض الإخوة أننا نقول قولاً من باب تحصيل الحاصل، لكني أقول: ليس الأمر كذلك، فإنه في عصر ابن القيم وقبله وبعده وإلى عصرنا يوجد من طوائف المسلمين ومن بعض أعلامهم من كان يرى تقديم العقل على النقل، ومن الناس من يأخذ بمسائل علم الكلام وبالدلائل العقلية، وأوجد مسائل منطقية وأنواعاً من الفهوم والعلوم شوشت على صفاء المنهج العذب الذي يستقى من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
والحق أن ابن القيم رحمة الله عليه في كتبه كثيراً ما يستدل بالكتاب والسنة في الرد على بعض من خالف أو أخطأ أو ابتدع في مسائل الاعتقاد، وأذكر مثالاً واحداً فحسب على هذا الأمر دون تطويل فيه: وذلك في مسألة رده على من أول اليد بالقدرة، فقد احتج عليهم بآيات من كتاب الله عز وجل تلجم الخصم الحجة وتعجزه عن الرد، أوجز كلامه حتى لا يطول بنا المقام، لقد استشهد بقول الله عز وجل في قصة خلق آدم:{لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}[ص:٧٥]، فيقول: لو كانت اليد تؤول بالقدرة، فما وجه التثنية هنا؟ أي: لو كانت اليد بمعنى القدرة لكان يغني أن يقول: لما خلقت بيدي، ولك أن تضع هذا السؤال ثم تطوف بعقلك وفكرك ما شئت، فلن تجد جواباً إلا أن هذا المنهج غير صحيح، وأن الإثبات الذي اعتمده أهل السنة هو الصحيح، ثم ثنى على ذلك بنصوص كثيرة من القرآن فيها ذكر اليد واليدين لله عز وجل بما يبطل حجة الخصم ولا يدع مجالاً لمثل هذا التأول، وذكر آيات كثيرة في هذا الشأن نصوصاً من أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، فهو يأتي بهذا المنهج ويعتمد عليه ويعول عليه.
الأمر الثاني الذي نقتبسه من نهجه رحمة الله عليه: هو أنه كان يأخذ بالحجج العقلية رديفاً؛ وذلك لأمور مهمة كثيرة منها: أن الشارع لم يلغ العقل أصلاً، وإنما جعل العقل الصحيح يوافق النقل الصحيح، وليس هناك تعارض كما قال ابن تيمية رحمة الله عليه.
ثم أيضاً لإقامة الحجة على من أخذوا بمثل هذه الحجج: فهو ينقض حجتهم بنفس منطقهم ومن خلال منهجهم، وهذا أيضاً قد برع فيه واستفاد كثيراً من شيخه رحمة الله عليهما جميعاً، ولقد برع في هذا خاصةً في كتابه "الصواعق المرسلة".
الأمر الثالث في هذا المنهج: أنه كان يستقرئ استقراءً عظيماً جداً لنصوص الكتاب والسنة في المقام الواحد، مع ذكر المأثور عن الصحابة والتابعين بجمع فريد، ومعنى ذلك: أنه لا يكتفي في الموضع الواحد بالدليل الواحد، الذي قد يكون للخصم فيه تأويل أو له عنده شبهة أو نحو ذلك، فأنت ترى أنه قد يأتي في المسألة الواحدة بمئات الأدلة، وهذا كان نهجه في تقرير المسائل العقدية، فقد كان يفصل فيها تفصيلاً، ويسهب إسهاباً، ويجمع جمعاً طويلاً في كل ما يتعلق بهذه المسألة من الأدلة النقلية النصية، ومن أقوال وأحوال الصحابة والتابعين، ولا شك أن الله عز وجل قد نفع به وبغيره من علماء الأمة؛ لكونهم نقلوا وثبتوا دعائم مذهب السلف الصحيح بهذه الأدلة النقلية الجامعة، وبإثبات ما نقل وأثر عن الصحابة رضوان الله عليهم والتابعين، وأهل القرون الثلاثة المفضلة الأولى، الذين كانوا في جملتهم على الحق والصواب، ولم تكن قد كثرت في عصورهم الفتن، ولا تعددت الفرق.
الأمر الرابع: أن ابن القيم رحمة الله عليه كان يأخذ بمبدأ الشمول والكمال في مسألة تقرير هذه المسائل، بمعنى: أنه لا يأخذ المسألة جملةً ويرد عليها جملةً، بل يأخذها بشكل شامل فيرد منها ما يرد، ويقر منها ما يقر، وهذه مسألة من المسائل الدقيقة التي يغلط فيها كثير من الناس، فقد يأتي إلى مذهب من المذاهب أو مقالة من مقالات أهل الفرق، فيردها بالكلية، وقد يكون فيها بعض الحق والصواب، فلما استفصل ابن القيم رحمة الله عليه في هذه المسائل وطول النفس فيها، بين أن هذه المقالة فيها وجه حق وهو كذا وكذا، وفيها وجه باطل وهو كذا وكذا، أو قد يكون هذا حقاً، لكن بضوابط هي كذا وكذا، وهذا أمر مهم جداً من ناحية التأصيل العلمي، ومن ناحية مراعاة حقوق الآخرين، والحرص على أعراض المسلمين، حتى لا يتهموا بالباطل أو بالخطأ، أو بأنهم خالفوا الكتاب والسنة كما نرى من تعجل بعض المتعجلين في أوقاتنا المعاصرة، فما أن يسمع عن إنسان أنه قال كلمة أو قال كلاماً يحتمل بعض الأقوال إلا قال -على سبيل المثال-: إن فلاناً من الصوفية أو من الحلولية؛ لمجرد كلمة واحدة، ثم يرد كل ما عنده من قول وفعل، وهذا كما هو معلوم أمر غير صحيح في هذا الجانب.