إن في الحج موسماً عظيماً للتقوى، كما قال عز وجل:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ}[البقرة:١٩٧]، فالحج هو نبع الإيمان، وهو كذلك صورة الإسلام الحقيقية فالإسلام هو الاستسلام لله، والانقياد له بالطاعة، والخلوص من الشرك، بأن تخرج من هواك، وأن تخرج من راحتك، وأن تخرج من أمنياتك وشهواتك ورغباتك إلى أمر الله عز وجل وطاعته، وإلى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته، كما قال صلى الله عليه وسلم:(لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به).
إن الإسلام استسلام لأمر الله، وإن كان فيه مشقة على البدن، أو فيه ثقل على النفس، أو فيه مغايرة ومخالفة لما في القلب من طبع، وكل ذلك يتجلى في حقيقة هذه الفريضة في قصة الخليل إبراهيم عليه السلام في الموقفين العظيمين الجليلين: يوم جاء بزوجه وابنه الرضيع إلى الصحراء القاحلة الجرداء التي لا ظل فيها ولا ماء، ولا إنس ولا بشر، وتركهم وقفل عائداً، فكيف طاوعته نفسه؟ وكيف لم يخالفه قلبه؟ وكيف لم تدركه رحمته؟ وكيف لم تنازعه شفقته؟ إنه كان بشراً، وكان كذلك يحمل صفات البشر، لكن أمراً كان أعظم من ذلك كله في نفسه هو أمر الله، إنه استسلام ومضي مع هذا الأمر وإن خالف كل شيء في الحياة، فمضى عليه السلام، فاستوقفته زوجه قائلةً -وهي المؤمنة المسلمة-: آلله أمرك بذلك؟ فيهز رأسه دون أن يلتفت أن: نعم.
فقالت: إذن لن يضيعنا.
فمضى تاركاً أهله، إلا من قليل ماء وتمر، وتبقى المرأة ومعها رضيع، ليس لها حول ولا طول، لكن الإيمان العظيم، والإسلام التام، والاستسلام المحض جعل تلك القلوب تفيء إلى أمر الله، وتطيع أمر الله، ولا تلتفت إلى شيء سواه، فسعت بين الصفا والمروة، تبحث وتؤدي الواجب، وتأخذ بالأسباب، ويأتي الجواب في مكان آخر، وتأتي النعمة والفضيلة والفرج في مكان آخر، كانت تطوف بين الصفا والمروة وتفجرت زمزم من جهة أخرى، ثم بعد ذلك صار الناس والأفواج يأتون، وبهذا تحقق نداء الله تعالى لإبراهيم حين قال:{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}[الحج:٢٧]، وتحقق دعاء الخليل عليه السلام:{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}[إبراهيم:٣٧]، كل ذلك تحقق لما كان الاستسلام لأمر الله.
ولما بلغ إسماعيل السعي رأى الخليل أنه يذبحه، كما قال عز وجل حاكياً عنه:{قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ}[الصافات:١٠٢]، ولم يقل: أضربك.
ولا: أهجرك.
بل ((أذبحك)) فجاء الاستسلام والإسلام: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}[الصافات:١٠٢]، ومضى المؤمنان المسلمان لأمر الله:{فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}[الصافات:١٠٣ - ١٠٧]، {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}[الصافات:١٠٧]، كل هذه المعاني ينبغي أن تتجلى في هذه الفريضة.
ونحن نقف في عرفات في اليوم التاسع لأن الله أمر، ونرجم الحصيات سبعاً وليست عشراً أو دون ذلك لأن الله أمر، ونبقى هذه الأيام على وجه الخصوص، ولا نخرج من عرفات إلا بعد الغروب لأن الله أمر، ولا نذهب إليها إلا في ذلك اليوم لأن الله أمر، وكل ذلك نقول: إننا فيه مستسلمون لأمر الله.
إنه تدريب عملي على حقيقة الاستسلام وبذل كل شيء لتحقيق هذه العبودية، فالمال يُبذل، والأهل والأولاد يسخرون إن جيء بهم، أو يقطعون ويهجرون إن تركوا خلفه، وكل شيء لا يحول ولا يمنع من أن يمضي المسلم لتحقيق إسلامه واستسلامه ومضيه لأمر الله، وأمر آخر في ذلك، وهو المتابعة والموافقة الدقيقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال:(خذوا عني مناسككم)، فالأقدام تلو الأقدام، والحركات خلف الحركات، والأوقات مراعية للأوقات، والصورة هي الصورة، حيث يحج الناس اليوم كما حج محمد صلى الله عليه وسلم من قبل أربعة عشر قرناً، دون اختلاف في شيء من الأمور مطلقاً، فأمة إسلام تسير وفق أمر الله، وتتابع هدي رسول الله، فما بالها في غير هذا الأمر من شئون الحياة، وفي غير هذه البقاع من بلد الله تخالف أمر الله، وتهجر أمر الله، وتتبع الأهواء، وتقدم الآراء، بل قد توافق الأعداء، وتسير على إثرهم مخلفةً وراءها حقيقة إسلامها في استسلامها لأمر الله واتباعها لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!