لما ثقل على أبي بكر المرض واستبان له حال نفسه -أي: أنه موشك على الموت- جمع الناس إليه ثم قال لهم:(إنه قد نزل بي ما ترون، ولا أظنني إلا ميت، وقد أطلق الله أيمانكم من بيعتي، وحل عنكم عقدتي، ورد عليكم أمركم، فأمروا عليكم من أحببتم، فإنكم إن أمّرتم في حياتي كان أجدر ألا تختلفوا من بعدي، فقاموا عنه، ثم لم يلبثوا من بعد حتى رجعوا إليه فقالوا: إنا نرى رأيك) أي: فوضنا الأمر إليك، وجعلنا الاختيار والترجيح لك، لما نعلمه عنك من صفاء نيتك، وعظمة إخلاصك وصدقك.
فأي شيء فعل أبو بكر رضي الله عنه؟ لقد بدأ بالمشاورة رغم أنه قد مال ميله، ورأى رأيه، فطلب إليهم أن يمهلوه وقال:(أمهلوني حتى أنظر لله، ولدينه، ولعباده).
لم يكن ينظر لنفسه ولا لحظها، ولا لأهله أو ورثته، لم يكن ينظر إلا لدين الله، ومصلحة عباد الله، ثم بدأ بالمشاورات فاستدعى إليه عثمان بن عفان رضي الله عنه، ثم قال له: ما تقول في عمر؟ فقال عثمان رضي الله عنه: والله لا تسألني عن شيء من أمر عمر إلا وأنت أعلم به مني، فقال: وإن كان كذلك! فأوجزها ذو النورين في كلمات؛ لتدلنا على عظمة أولئك الرجال، وصدقهم وإخلاصهم، وتجردهم من حظوظ أنفسهم، وترفعهم عن ميلهم إلى هواهم أو نظرهم إلى دنياهم، أوجزها كلمات خالدة فقال:(هو أفضل من رأيك فيه) وما أبلغ هذه الكلمات! ثم استدعى أبو بكر رضي الله عنه عبد الرحمن بن عوف وسأله ذلك السؤال، فقال: إنك أعلم به، فطلب منه الإفادة، فقال:(علمي أن سريرته خير من علانيته، وأنه ليس فينا خيرٌ منه).
تلك الكلمات الصادقة أعقبها أبو بكر باستشارة سيدٍ من سادات الأنصار أسيد بن الحضير رضي الله عنه فقال:(الله أعلم بالخيرة بعدك، فإنه يرضى للرضا، ويسخط للسخط، والذي يسر خيراً من الذي يعلن، ولن يلي هذه الأمة أحدٌ أقوى منه).
فكانت هذه الشهادات الصادقة المخلصة المترفعة قد عقدت عزم أبي بكر على المضي لما رآه من الاختيار لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فرغم ثقل مرضه وشدته، لم يكن له هم إلا في حال الأمة وحسن الاختيار لها.