وأما الثاني للكمال في هذه النصيحة فهو عمل الناصح بما ينصح به: فإن القدوة الحسنة لها أثرها في النفوس، فإن وافق الفعل القول كان ذلك أبلغ في الفهم والمعرفة وفي القبول والإقبال على هذه النصيحة، ولقد ورد الذم كثيراً وعظيماً لمن يخالف قوله فعله، ولمن لا يلحق القول بالفعل:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ}[الصف:٢ - ٣].
وفي سياق ما ذكر من صفات مذمومة كان عليها بعض أهل الكتاب قول الحق جل وعلا:{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ}[البقرة:٤٤]، ولا يعني ذلك -كما أشرنا من قبل- أن تترك النصح إذا رأيت الخطأ وأنت غير مستقيم، فإن النصح في هذه الحالة يكون نصحاً للآخر ونصحاً لك، وذلك يقودك إلى مراجعة نفسك: ما بالي أقول لا تفعلوا وأنا أفعل؟ ما بالي أقول اجتنبوا وأنا ارتكب؟ فيكون ذلك عظة للإنسان.
لكننا نتحدث هنا عن الكمال الذي يجعل للنصيحة أثرها النافع والمفيد، ومن حديث أسامة بن زيد وهو صحيح، ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم عن عقاب رجل في يوم القيامة صفته: أنه يأمر بالمعروف ولا يأتيه، وينهى عن المنكر ويأتيه، قال صلى الله عليه وسلم:(فيؤتى به يوم القيامة فتندلق أقتاب بطنه -أي أمعاؤه- فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى؛ فيطلع عليه أهل النار فيقولون: ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: بلى كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه).
وتلك صورة من العقاب المعنوي والحسي ساقها النبي صلى الله عليه وسلم تذكيراً وموعظة، وتحذيراً وترهيباً من مثل هذا السلوك.
ولا شك أننا ندرك تماماً أن المخالفة بين القول والفعل من أسباب عدم قبول النصيحة، وحصول أثر الدعوة، ومن هنا جاء الخطاب القرآني على لسان نبي من أنبياء الله عز وجل: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود:٨٨]، لا أريد أن أنهاكم عن شيء ثم أخالف وأكون أنا الذي أفعله، فيكون ذلك كما ذكر ابن القيم من صفات علماء السوء الذين يعظون الناس بأقوالهم، ويصدونهم عن سبيل الله بأفعالهم، فشبههم بالذين يصطادون الناس بالصد والإعراض عن سبيل الله عز وجل وعن دينه سبحانه وتعالى.