للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الضياع والخسارة]

كم من الشباب يندفعون في جوانب مختلفة ثم لا يحصلون على شيء؛ لأنهم لم يرشدوا تلك الحماسة، ولم يجعلوها في برامج عملية وتدرج، فيمضي الوقت ولا تحصل الثمرة، أو تنفق الجهود أو الأموال ولا تحصل النتيجة.

ولعلي أضرب مثالاً في قضية العلم مرة أخرى: بعض الشباب في هذه الحماسة العلمية يتتبعون مسائل الخلاف، وتجد الواحد بعد يوم أو يومين من بداية عنايته بالعلم أو بعنايته بالالتزام إذا به يسمع هذه المسائل الخلافية ويبدأ يتحدث بها: فلان مخطئ، وفلان كذا.

ويبدد الجهود في تتبع الأخطاء وفي حفظ الأحاديث الضعيفة والموضوعة، ولم يعرف الصحيحة بعد، ولم يحفظها، ولم يكوّن من ذلك نظرة علمية واضحة يستطيع بها أن يميز الخطأ الذي قد يكون في هذه المنهجيات المختلفة، وابن القيم رحمه الله -كما ورد في القواعد- قال: من تتبع شواذ المسائل قلّ أن يفلح.

يعني من تتبع المسائل التي فيها الخلافات فقط.

ويقول: منهج أهل السنة والجماعة أخذ أصول العلم.

وقال: وغيرهم يتتبع شواذ المسائل.

ويقول عن تجربة: وقلّ من رأيته يفلح في هؤلاء.

أي: لا يخرج بثمرة؛ لأنه -إذا صح التعبير- يأخذ من كل بحر قطرة، وينتهي بعد ذلك بدون أي قطرة، وليس في ذلك تحقيق للصورة الإيجابية المرجوة، والتي تتمثل في تجميع هذه الجهود لنصل إلى ثمرة، وإنما ضياع وخسارة.

ولا شك -أيضاً- أن من الحسرات موضوع التضخيم والاختلال، فهناك نقاط صغيرة يمكن بالمكبرات أن ترى أضعاف حجمها، فمن حماسة الناس أن أحدهم أحياناً إذا تحمس لأمر جعله كل شيء، وجعله هو مبتدأ الأمر ونهايته، وهو أوله وغايته، وهو الذي لا يمكن أن ينشغل أحد إلا في أوله وغايته، وهو الذي لا يمكن أن ينشغل أحد بسواه، وإذا انشغل أحد بغيره فهو ضائع وتافه ومضيع للأمور، وهكذا تندفع العاطفة تماماً، وهكذا هي العاطفة بطبيعتها، كما يعرف عند العشاق والمحبين تختصر الدنيا كلها في المعشوق والمحبوب، كما قيل: ولو قيل للمجنون ليلي ووصلها تريد أم الدنيا وما في طواياها لقال غبار من تراب ديارها أحب إلى نفسي وأشفى لبلواها يقول ابن الجوزي معلقاً: وهذا مذهب المحبين بلا خلاف، فمن أحب الله ورسوله كان أدنى شيء منهما أحب إليه من كل هذه الدنيا وما فيها.

فالمسألة الاندفاعية العاطفية قضية عظيمة، ومن أمثلتها: التقديس والتبخيس والتهوين والتهويل، فمن أحببناه جعلناه ذلك الرجل الذي كأنما هو ملك مبرأ من كل عيب، أما علمه فغزير، وأما رأيه فسبيل، وأما منطقه ففصيح، وأما تصرفه فحكيم، وكأنما لم يكن فيه عيب مطلقاً، ونحن حينئذ نقول: هو الأول وهو الآخر، هو الذي ينبغي أن يكون، فأين هذا من ذلك الاتزان؟ فإن النبي عليه الصلاة والسلام يقول لأصحابه: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم)، ويقول: (قولوا ببعض قولكم) فيجعل هذا الاعتدال في شخصه عليه الصلاة والسلام، وهو من هو في عظمته ومكانته عند ربه سبحانه وتعالى! ومما رواه أنس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب شيء إلينا رؤيته، فإذا أقبل علينا لم نقم له؛ لأنا نعرف كراهيته لذلك) ونحن أحياناً إذا انتقصنا إنساناً أو كان غير مقنع لنا فلا نكاد نرى له حسنة من الحسنات، كما قال الشاعر: وعين الرضا عن كل عيب كليلة كما أن عين السخط تبدي المساويا وهذه قضية واضحة.

إذاً فهل نحن الآن مع الحماسة أم نحن ضد الحماسة والمتحمسين؟

الجواب

نقول: لا للتهور، وأما الحماسة التي قلناها فلنظل باقين على عهدنا بها وعلى تأييدنا لها.