في الحديث القدسي:"ما تقرَّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إليَّ ممَّا افترضته عليه"، فلو سألك سائل: رجلان أحدهما تصدق بدرهم صدقة تطوع، والثاني تصدق به زكاة واجبة أيهما أفضل؟ الثاني أفضل؛ لأنه واجب، والواجب أحبُّ إلى الله تعالى من التطوع من جنسه، إذن هي تطهر من الذنوب، {وتُزكيهم بها} أي: تزكي إيمانهم وأعمالهم وأخلاقهم، أي: تزكي الإيمان؛ لأن بذل الإنسان ما يجب ابتغاء لرضا الله عز وجل لا شك أن إيمانه يزداد به، وتزكي الأعمال؛ لأن الأعمال الصالحة يزيد بها الإيمان كما هو مذهب أهل السنة والجماعة، وتزكي الأخلاق، لأنه يلتحق ببذل المال بصفوف الكرماء، والكرم خلق محمود فحينئذٍ يزكو خلقه أيضًا.
أما المال فإن فائدتها- أعني: الزكاة- للمال فائدة عظيمة؛ لأنك إذا أخرجت زكاة المال بارك الله لك فيما أبقى، وإذا منعت فإنه قد تسحق الزكاة مالك وتسلَّط عليه الآفات حتى ينفد. ففيها إذن فائدة للمخرج وللمخرج منه، وللمخرج إليه، كيف المخرج إليه؟ هذا معلوم، حيث إن هذه الزكاة يستفيد منها الفقير ويجد نفقة بها، ويستفيد منها أيضًا المجاهدون في سبيل الله فيجدون معونة، والمؤلفة قلوبهم يجدون ما يؤلفهم على الإيمان، ففيها فوائد عظيمة.
ثم إن في إيجاب الزكاة على عباد الله بيان لحكمة الله تعالى في التشريع؛ لأنك إذا تأملت الشرائع وجدت أنها كف وبذل، كف عن محبوب وبذل لمحبوب، فبذل المحبوب مثل الزكاة والحج في غالب الأحيان، وكف عن محبوب مثل الصيام والصلاة، فإن الإنسان في حال صلاته لا يأكل ولا يشرب ولا يتمتع بأهله ولا يلتفت إلى شيء غير صلاته، وفي الصيام يمسك عن الأكل والشُّرب والنكاح ومتع الدنيا التي تتعلق بالصيام، فتجد أن العبادات كف وبذل، ثم مع ذلك العبادات كف وبذل، إما بالبدن، وإما بالمال لأجل أن يتبين صدق العبودية؛ لأن من الناس من يهون عليه بذل البدن ويتعب ولا يهمه، لكن لو قيل له: أخرج قرشًا واحدًا من دراهمك، احمرَّ وجهه، وبعض الناس يهون عليه المال، ولكن يشق عليه التعب البدني، ويذكر أن بعض العلماء- غفر الله لنا ولهم- وجب على أحد الملوك عتق رقبة في بعض الكفارات، وأفتاه بأن يصوم بدل من العتق مع أن مرتبة الصيام بالنسبة للكفارات أنه يلي العتق، وما حجة هذا العالم الذي أفتى؟ ! قال: لأن عتق الرقبة للملك بسيط سيعتق عشر رقاب، لكن صيام يوم واحد أشق عليه من مائة رقبة! فقال: نؤذيه بالصيام هل هذا الاستحسان صحيح؟ لا، غير صحيح؛ لأن الاستحسان المضاد للشرع لا شك أنه سوء وليس بخير.
فالحاصل: أن الله حكيم في تنويع العبادات لأجل أن يمتحن العبد هل هو عبد لله حقًّا أو هو عبد لهواه، فمن مشى مع الشرع فهو عبد الله.