ولولا أن قومي أخرجوني منك ما خرجت"، وهذا صريح، وأما ما يرويه بعض الناس من أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في مكة: "إنها أحبُّ البقاع إلى الله"، وفي المدينة: "إنها أحبَّا البقاع إليَّ"، فهذا ليس بصحيح، وقال بعض أهل العلم: إن المجاورة في المدينة أفضل؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم حثّ على السُّكنى فيها، وقال: "المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون".
وقال بعض أهل العلم: المجاورة في مكان يقوى فيه إيمانه وتكثر فيه تقواه أفضل من أي مكان، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وقال: إذا فرضنا أن الإنسان في مكة يضعف إيمانه وتقواه ويقل نفعه فليخرج كما فعل الصحابة، ذهبوا إلى الشام والكوفة والبصرة وإلى مصر يلتمسون ما هو أنفع وأفضل، وسكنوا وصاروا يعلَّمون الناس ويدرسونهم العلم، وتركوا المدينة ومكة، وهذا القول أصحّ، لكن لو فرضنا أن الإنسان يتساوى عنده البقاء في مكان ما، وفي مكة والمدينة، قلنا: في مكة والمدينة أفضل من غيرهما بلا شك، أما المفاضلة بين مكة والمدينة فهي عندي محل توقف بالنسبة للمجاورة، أما بالنسبة لفضل مكة فلا شك أن مكة أفضل.
يتفرع على تفاضل العمل في مكة والمدينة: هل تتضاعف السيئات في مكة والمدينة؟ الجواب: أما بالكمية فلا، وأما بالكيفية فنعم، العقوبات على السيئات في مكة أعظم من العقوبات على السيئات في غيرها، وفي المدينة أعظم أيضًا، ودليل ذلك قوله تعالى:{من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون}[الأنعام: ١٦٠]. وهذه الآية في الأنعام مكية، وبهذا نعرف بطلان ما يذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "لا أسكن في بلد حسناته وسيئاته سواء"، لما قيل له: ألا تسكن في مكة؟ فقال هذا القول، فإن هذا لا يصح عن ابن عباس رضي الله عنهما، وابن عباس أفقه وأعلم من أن يقول مثل هذا الكلام.
* * * *
[٦ - باب الفوات والإحصار]
"الفوات: مصدر أو اسم مصدر لفات يفوت، والمصدر: فوزتًا، واسم المصدر فوات، والفوت: هو السَّبق الذي لا يدرك، فإذا سبقك إنسان ولم تدركه تقول: فاتني، هذا هو الفوات أما في الاصطلاح فالوات: طلوع فجر يوم النحّر قبل أن يقف الحاج بعرفة، هذا الفوات في الاصطلاح، ومعناه: لو أن أحدًا أحرم بالحج واتجه إلى المشاعر وطلع الفجر عليه قبل أن يصل