فيستفاد من هذا ومما قبله: أنك مخير بين أن تأتي بهذا أو بهذا، ولا حرج عليك؛ لأن المخاطب مفهوم أنهم أهل هذه المقبرة.
ومن فوائد الحديث أيضًا: أن الإنسان ينبغي له أن يوطّن نفسه على مستقبله الذي لابد منه؛ لقوله:"أنتم سلفنا ونحن بالأثر"، يعني: أنتم تقدمتمونا والحال بيننا وبينكم واحد، لكن أنتم تقدمتم ووصلتم إلى المنزل ونحن لكم بالأثر، وهل يمكن أن نتخلف عنهم؟ لا يمكن أبدًا.
[النهي عن سب الأموات]
٥٦٩ - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبُّوا الأموات، فإنَّهم قد أفضوا إلى ما قدَّموا". رواه البخاريُّ.
٥٧٠ - وروى التِّرمذيُّ عن المغيرة رضي الله عنه نحوه، لكن قال:"فتؤذوا الأحياء".
"لا تسبوا" ما هو السبّ؟ السبّ هو: ذكر العيب، فإن كان في مقابلة الشخص فهو سبّ، وإن كان في غيبته فهو غيبة، وإن كان كذبًا فهو بهتان وسبّ أو غيبة، فقوله:"لا تسبوا الأموات" هذا سبّ ولكنهم أموات، فهو سب متضمن للغيبة؛ لأنهم ليسوا عندك حتى نقول: إن هذا مجرد سب، وقوله:"الأموات": جمع محلى بـ"أل"، والجمع المحلى بـ"أل" إذا لم تكن للعهد فهو يفيد العموم، فيشمل الأموات المسلمين وغير المسلمين، حتى الكافر لا يسب إذا مات؛ لأنه- كما سيأتي- أفضى إلى ما قدّم، وهذا تعليل عدم جواز شبهم مطلقًا.
وقوله:"فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا" أي: انتهوا إليه ووصلوا إليه، وقوله:"إلى ما قدموا" يعني: من العمل، وهم الآن لا فائدة من سبَّهم؛ لأنهم وصلوا إلى الجزاء، وحينئذٍ يكون السب عبثًا، ثم إن كان لهم أحياء يسمعون هذا السب صار هناك علة أخرى، وهي إيذاء الأحياء، كما في رواية الترمذي:"فتؤذوا الأحياء".
فكان في سب الأموات معنيان: المعنى الأول: أنه لغو؛ لأنهم أفضوا إلى ما قدمّوا.
والمعنى الثاني: أنهم إذا كان لهم أحياء فسوف يتأذون، وحينئذٍ فسب الأموات دائر بين أمرين: إما لغو لا فائدة منه، وإما إيذاء للأحياء؛ فلهذا نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، هذا هو ظاهر الحديث، أي: أن ظاهره العموم، ولكن ذهب بعض أهل العلم إلى أن هذا خاص بالمسلمين، وأما الكفار فإنه يجوز أن يسبهم الإنسان ولو بعد موتهم، واستدلوا بما ثبت في صحيح