فما الحكم إذن بالنسبة لجعفر وحاجمه حسب القواعد العامة؟ الجواب على هذا: أنه لا فطر عليهما؛ لأنهما لا يعلمان؛ إذ يبعد من حالهما أن يعلما أن ذلك محرَّم ثم يقدما عليه.
[فائدة في ثبوت النسخ في الأحكام]
ويستفاد من هذا الحديث- إذا صحَّ-: جواز النسخ في الأحكام، يعني: أن الله عز وجل يغير الأحكام من حكم إلى آخر، وهذا ثابت بالقرآن والسُّنة والإجماع، إلا أن أبا مسلم الأصبهاني رحمه الله- وليس الخراساني- يقول: إن النسخ ليس بجائز، ويحمل ما ورد على ذلك على أنه تخصيص، قلنا: كيف قال: لأن الأصل في الحكم أن يثبت في جميع الزمان من أول ما شرع إلى يوم القيامة، إذا نسخ فمعناه رفع الحكم فيما بقي من زمنه، فيكون ذلك تخصيصًا باعتبار الزمن، فمثلًا إذا كان هذا الحكم {حرمت عليكم الميتة}[المائدة: ٣]. إلى متى؟ إلى يوم القيامة، جاء حكم برفع هذا التحريم مثلًا، نقول: الآن بقية الزمن الذي بعد النسخ حصل فيه التخصيص، والحقيقة أن هذا مع مذهب الجمهور خلاف لفظي، وكان الواجب أن نقول: إنه نسخ كما قال الله عز وجل، أما اليهود فيذكر عنهم أنهم يمنعون النسخ؛ ولهذا يكذبون بعيسى ومحمد، ولكن الله ردَّ عليهم بقوله:{* كل الطعام كان حلًا لبنى إسرآئيل إلا ما حرم إسرآئيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة}[آل عمران: ٩٣]. إذن يوجد نسخ، وعلى كل حال النسخ ثابت، لكن إذا قال قائل: ما هي الحكمة من النسخ إن كان الخير في الناسخ فلماذا لم يثبت من الأول وإن [كان] الخير في المنسوخ فلماذا نسخ؟
فالجواب: أن الخير أمر نسبي قد يكون الشيء خيرًا في هذا الزمن ويكون غيره خيرًا منه في زمن آخر، وحينئذٍ يكون الخير في النسخ والمنسوخ، المنسوخ إبان أي وفت بقاء حكمه هو الخير وبعد أن نسخ فالخير في بدله، وحينئذٍ لا يقال: إن قولكم بالنسخ قدحٌ في علم الله أو في حكمته؛ لأن اليهود يدعون هذا، يقولون: إذا جوزتم النسخ جوزتم البداء على الله، وهو العلم بعد الجهل. نقول: قاتلكم الله! تنكرون ما ثبت وما دل العقل على إمكانه، وأنتم تقولون: يد الله مغلولة، والله فقير؟ ! فنقول: إن الله تعالى عليم بلا شك وعلمه سابق على وجود الأشياء، وحكيم وحكمته من صفاته الأزلية الأبدية، لكن يعلم عز وجل أن هذا الحكم خير في زمنه، وأن بدله خير في زمنه، وهذا شيء معلوم، ولا حاجة إلى الأمثلة.
إذن نقول: في هذا الحديث الذي معنا دليل على النسخ وهو ثابت بالقرآن في قوله تعالى: {* ما ننسخ ... }[البقرة: ١٠٦]. وفي قوله تعالى:{فالآن باشروهن}[البقرة: ١٨٧]. وقيل: الآن ممنوع، وفي قوله:{الآن خفف الله عنكم ... }[الأنفال: ٦٦]. الآن، وقيل:{وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفًا من الذين كفروا}[الأنفال: ٦٥]. وقوله:{سنقرئك فلا تنسى * إلا ما شآء الله}[الأعلى: ٦، ٧]. هذه أيضًا استدل بها بعض العلماء على النسخ، قال:"ما شاء الله" أن ينساه حتى يرتفع حكمه فعل.