كحديث المساجد، وليس قيامًا يقوم فيه الإنسان ويعظ الناس ويذكّرهم، ولا يقال: إن هذه الساعة ساعة يناسب فيها الوعظ؛ لأن القلوب رقيقة والناس يشاهدون المقابر ويشاهدون دفن الميت، فقلوبهم متهيئة للنصيحة. لو قال قائل هكذا قلنا: لا شك أن هذا الأمر كما قلت، ولكن هل فعله الرسول صلى الله عليه وسلم إلا في هذه الحال التي اقتضاها سبب؟ الجواب: لا، وهل الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم أن القلوب في هذه الحال رقيقة ومتهيئة للنصيحة؟ يعلم، ومع ذلك ما فعل، وعندي- والله أعلم- أن الحكمة من هذا لئلا يتخذ هذا الموقف مكانًا للوعظ والخطب، فإنه اتخذ لذلك ربما يأتينا أناس أهل فصاحة وبيان وانطلاق ويجلس يخطب نصف ساعة، ثلثي ساعة، ثم ينسى الناس الميت، أو ربما يدفن ويشتغلون بهذه المواضع، فخير الهدي هدي النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان الناس جلوسًا لانتظار الدفن فهذا لا بأس أن يحدِّث من حوله بما يرى أنه مناسب، وأما أن يقوم الرجل فيخطب فإن هذا يعتبر من البدع، والدليل على ذلك: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفعله في كل جنازة خرج فيها.
ويستفاد من هذا الحديث: أنه يجوز أن ينزل في القبر من ليس قريبًا من الميت؛ لأن أقرب الماس إلى البنت أبوها وهو الرسول صلى الله عليه وسلم ومع ذلك لم ينزل في قبرها، بل أمر أبا طلحة؛ لأنه سألهم، قال: أيكم لم يقارف الليلة؟ فقال أبو طلحة: أنا. فقال: انزل في القبر، فنزل في قبرها مع أن أبا طلحة ليس من محارمها وهي امرأة.
فيستفاد من هذا الحديث: أن الإنسان يجوز له أن يدع دفن المرأة ويتولاها غيره ممن ليس محرمًا لها، وهذا إذا خيف منه الفساد فإنه يمنع منه، بمعنى: أننا ننزل رجلًا ليس بثقة يتولى مس المرأة وحملها وإضجاعها في القبر إلا إذا كان إنسانًا ثقة.
النهي عن الدفن ليلًا:
٥٦٥ - وعن جابر أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا تدفنوا موتاكم باللَّيل إلا أن تضطرُّوا". أخرجه ابن ماجه.
- وأصله في مسلم، لكن قال:"زجر أن يقبر الرَّجل باللَّيل حتَّى يصلَّى عليه".
معلوم لدينا جميعًا أن "لا" هنا ناهية، وأن الفعل بعدها مجزوم بحذف النون، وأن قوله:"بالليل" الباء هنا: للظرفية كما هي في قوله تعالى: {وإنَّكم لتمرُّون عليهم مُّصبحين (١٣٧) وباللَّيل ..... } [الصافات: ١٣٧، ١٣٨]. يعني: في الليل.
وقوله:"إلا أن تضطروا" هذه استثناء من أعم الأحوال؛ يعني: في أي حال من الأحوال لا تدفنوا إلا أن تضطروا، يسمون هذا استثناء من أعم الأحوال؛ لأن الاضطرار هنا حالة وليست إنسانًا أو شخصًا حتى نقول: إنها من الجنس.