وأما السنُّة فكثير:"كنت نهيتكم عن زيارة القبول فزوروها"، "كنت نهيتكم عن الانتباذ في الدباء فانتبذوا فيما شئتم غير ألًا تشربوا مسكرًا"، "كنت نهيتكم عن الادَّخار في لحوم الأضاحي فادخروا ما شئتم"، وأمثال هذا كثير مما يدل على جواز النسخ، والحكمة تقتضيه؛ لأن الناس في ابتداء الشريعة ليسوا كالناس عند كمال الشريعة، تقبلهم للشيء بعد كمال الشريعة ورسوخ الإيمان في قلوبهم أكثر من تقبلهم في أول الشريعة، ولهذا جاءت الشريعة متطورة حسب أحوال المشرع لهم.
[حكم الفصد والشرط للصائم]
وهل يلحق بالحجامة غيرها كالفصد والتشريط أو لا؟ في هذه المسألة خلاف، بناء على أنه هل الحكمة معقولة أو هو حكم تعبدي؟ إن قلنا: إنه تعبدي فلا قياس؛ لأن القياس إلحاق فرع بأصل في حكم لعلة جامعة، "إلحاق فرع" وهو المقيس، "بأصل" وهو المقيس عليه، "في حكم لعلة جامعة"، فإذا كان الحكم تعبديًا- أي: غير معقول العلة- فإنه يمتنع القياس لفوات ركن من أركانه، وهو العلة، فمن قال: إنه تعبدي- وهو المشهور من المذهب- قال: إنه لا يلحق الفصد والتشريط بالحجامة، وإن الصائم لو شرط أو فصد فإنه لا يفطر بذلك، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله عند أصحابه، واختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن الشرط والفصد بمعني: الحجامة فيلحق بها، فلا يجوز للصائم أن يفصد أو أن يشرط، وكذلك أخذ الدم من الإنسان ليحقن في غيره ينبني على هذا، فإذا أخذ من الإنسان دم يحقن في غيره وكان كثيرًا بحيث يؤثر على البدن كما تؤثر الحجامة، فإنه ينبني على ما سمعتم.
مسألة: هل يلحق بالحجامة غيرها أم لا؟ فإن قلنا: يلحق، قلنا: إن هذا يفطر، وإلاَّ فلا، وعلى القول [الراجح] أنه يلحق بها ما يساويها، إذا طلب من شخص أن يتبرع بدم لآخر فإن كان صومه نفلًا فلا حرج عليه؛ لأنه يجوز للصائم نفلًا أن يفطر بدون عذر، وإن كان صومه فريضة نظرنا إن كان المريض مضطرًّا إلى ذلك بحيث يخشى عليه الموت إن لم يحقن به قبل المغرب، ففي هذه الحال يجب على الصائم أن يتبرع بدمه ويفطر؛ لأنه يجب إنقاذ الغريق والحريق ولو أدى إلى الفطر، ففي هذه الحال إذا أفطر- يعني: تبرع بدمه وأفطر- يجوز أن يأكل ويشرب؛ لأن القاعدة عندنا أن كل من أفطر في رمضان بسبب يبيح الفطر فله الأكل والشرب