إذن قوله:"مئنة من فقه" أي: من فهمه في دين الله، بل ومن فهمه لأحوال الناس أيضًا، فكلمة "فقه" هنا ينبغي أن نجعلها شاملة لفقه الشرع، ولفقه أحوال الناس، وذلك لأن الإنسان في فرائضه يناجي ربه، فكلما طالت هذه المناجاة فلا شك أنه أفضل، وأمّا في الخطبة فهو يعظ الناس ويرشدهم وكلما قصر كان أكمل وأنفع، ولهذا يُقال:"خير الكلام ما قل ودل ولم يطل فيُمل" وهذا هو الواقع، واعتبر ذلك في رجل قام يتكلم فهو من أشد الناس تأثيرًا إذا أطال الكلام ملّ الناس وسئموا ثم إن آخر الكلام ينسي أوله، لكن إذا كان قصيرًا وجامعًا وواضحًا بيّنا جعل الله تعالى فيه خيرًا كثيرًا فالمدار على النفع إذن الحكمة في أن هذا من الفقه حكمة دلالة؛ لأنه في صلاته يُناجي عز وجل والبقاء في مناجاة الله لا شك خير كثير، وأمّا في الخطبة فإنّما يُناجي الناس، ويريد أن يدلهم ويرشدهم، وهذا يقتصر فيه على ما كان أنفع، وكلما قل الكلام ودل فإنه أفضل وأنفع.
وفي هذا الحديث من الفوائد: أن الناس يختلفون في الفقه.
وفيه أيضًا: أنه ينبغي مراعاة أحوال الناس؛ لأن قصر الخطبة لا شك أنه مراعاة لأحوال الناس فإذا راعيتها كان في هذا خير كثير.
وهل يستفاد منه: أن الخطب خاصة بالرجال، أو يقال: إن الجمعة فقط هي الخاصة بهم؟ الظاهر أن المراد: الجمعة، وإلا قد تقوم المرأة خطيبة للنساء في مصلحة من المصالح، ولا حرج في هذا، فإن قال قائل: كيف تجمع بين هذا الحديث والذي بعده، وهو حديث:
[قراءة سورة (ق) في الخطبة]
٤٣٠ - وعن أمَّ هشام بنت حارثة رضي الله عنها قالت:"ما أخذت: {ق والقرآن المجيد}، إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلميقرؤها كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس". رواه مسلم.
هذا يدل على أن الرسول يطيل؛ لأن {ق والقرآن المجيد} تقول أيضًا: "إذا خطب الناس" فمعنى ذلك: أنه لا يقتصر على هذه السورة وحدها، بل يكون هناك خطبة مع هذه السورة، وهذا يعتبر طولًا، فالجواب على ذلك: أن نجعل مثل هذا هو الميزان لقصر الخطبة؛ لأن بعض الناس يُطيل الخطبة إلى ساعة، أو ساعة وربع، وما أشبه ذلك، وهذا أطول من سورة (ق) فيُقال: إن الأمر نسبي كما قلنا في مسألة الصلاة: إنه ينبغي للإنسان التخفيف مع الإتمام، وقلنا: كيف يمكن أن نقول بذلك والرسول صلى الله عليه وسلم ربما يقرأ بسور طوال؟ فقلنا: إن التخفيف ميزانه فعل الرسول- عليه الصلاة والسلام- وكذلك هنا، فما شابه هذه الخطبة فإنها تعتبر خفيفة، ولكن