كان من نيته أن يرجع على أبيه بمقدار عمله، فهنا يعطيه أبوه مقدار عمله، ويعامله كأنه أجير أجنبي، فإن كان لا ينوي الرجوع على أبيه لكن صار بينه وبين أبيه سوء تفاهم، فقال لأبيه: أنا أريد مقابل عملي في مالك أو فلاحتك فهل يُعطى بأثر رجعي؟ لا؛ لأنا نقول: إنك عملت متبرعا، ولهذا نقول: ينبغي للأب أن يكون عنده شيء من العدل، فإذا كان هذا الولد يعمل معه في فلاحه وفي تجارته ينبغي له أن يجعل له سهمًا من الربح، لكنه سهم كسهم الأجنبي لا يبر ولده بزيادة لاسيما إذا كان الأخوة الآخرون لهم تجارات ومزارع يختصون بها، وهذا منقطع على أبيه، فإن مثل هذا يتعين أن يفرض له الأب شيئا إما من الربح وإما بأجرة شهرية، لكن لا يزيد على أجرة المثل.
ومن فوائد الحديث: أنه يجوز قول: لا، أمام من يستحق التعظيم؛ لقوله: لا، وقد ورد في حديث جابر ما هو أعظم من ذلك، حيث قال له النبي (صلى الله عليه وسلم): «بعني» يعني: الجمل «بأوقية»، قال: لا، فإذن يجوز أن يخاطب الكبير والشريف ومن له التعظيم بمثل هذا، أما قول العامة يقولون كلمة ما أدري ما، هي كلمة يريدون بها التعظيم والاحترام فالظاهر لي -إن شاء الله- أنها جائزة، وقد يقول قائل: لعل هذا من باب التنطع إذا كان الصحابة (رضي الله عنهم) وهم أحسن منا خُلقا وأكمل منا أدبًا يخاطبون النبي (صلى الله عليه وسلم) وهو أحق البشر أن يُعظم بكلمة «لا»، فلماذا لا نقول: لا؟ ولهذا أنا ربما أقيس هذه على قول بعض العلماء: الأولى أن يقول: أبول، ولا يقول: أريق الماء، بعض الناس يقول: أطير الماء، فيقولونها من باب التأدب بالألفاظ وقد ذكر صاحب الفروع (رحمه الله) الأولى أن يقول: أبول، ولا يقول: أريق الماء.
[حكم الرجوع في الهبة]
(٨٨٩) - وَعَن ابن عبّاس (رضي الله عنه) قال: قال النّبيّ (صلى الله عليه وسلم): «العَائد في هبته كالكلب يقيء، ثم يَعُودُ في قيئه». مُتفق عليه.
- وفي رواية للبخاري:«ليْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوء، الذي يعودُ في هبته كالكلب يقيء ثُمَّ يَرّجع في قيئه".
هنا مُشبَّه ومُشبه به، المشبه العائد، والمشبّه به الكلب، وما هو الجامع بينهما؟ الجامع أشار إليه في قوله: «يقيء ثم يعود في قيئه»، أي: الكلب في رجوعه في قيئه، يعني: أن الكلب يقيء ما في بطنه من الطعام ثم يرجع فيأكل هذا القيء، وذلك لأن الكلب إذا جاع أكل ما يليه أي شيء يصادفه يأكله، فهذا الذي أعطى الهبة ثم بعد ذلك رجع فيها، نقول: أنت مثل الكلب يقيء ثم يعود في قيئه، وفي رواية البخاري:«ليس لنا مثل السوء» بمعنى: العيب والنقص، والمثل