فإن قال قائل: ما الجواب عما جاء في صحيح مسلم في قصة الرجل النجدي الذي جاء يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام فذكر له خمس صلوات وصيام رمضان والزكاة [فقال الرجل بعد ذلك]: هل علي غيرها؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:«لا إلا تطوع»، فقال: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«أفلح وأبيه إن صدق»، فقال:«وأبيه»، وهذا حلف بالآباء، فقيل في الجواب عن ذلك أولا: أن اللفظة شاذة انفرد بها بعض الرواة الآخرين، والشاذ غير مقبول؛ لأن من شرط القبول أن يكون الحديث غير شاذ وعلى هذا نستريح منه، وهذا من حسن المناظرة أي: أن الإنسان يطالب أولا بصحة الدليل قبل كل شيء؛ لأنه إذا لم يصح لا حاجة إلى أن نتكلف في رده، وهذه من طرق العلماء التي يسلكونها، وعلى رأسهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه «منهاج السنة» الذي رد به على الرافضة، يقول في الجواب: نطالبك بصحة النقل؛ لأنه إذا عجز أن يقيم الدليل على صحته فمعناه: أنه سقط وعليه تسقط حجته، وقيل: إن هذا كان في أول الأمر ثم نسخ، وهذا يحتاج إلى العلم بتأخر هذا عن النهي عن الحلف بالآباء، فإن لم يوجد دليل فإنه لا يجوز ادعاء النسخ؛ لإمكان أن يكون المدعي نسخه هو الناسخ، وقيل: إن هذا في حق النبي صلى الله عليه وسلم خاصة؛ لأنه لا يمكن أن يتصرف فيما فيه احتمال الشرك وتعظيم المخلوق كتعظيم الخالق بخلاف غيره، وأما غيره فلا يحل له أن يقول: وأبيه، وهذا أيضا فيه نظر؛ لأنه يحتاج إلى دليل على الخصوصية، الرابع: أنه على حذف، والتقدير: أفلح ورب أبيه إن صدق، وهذا أيضا غير صحيح، لأن حذف المضاف هنا يوجب إشكالا، والنبي صلى الله عليه وسلم يبلغ البلاغ المبين، فلا يمكن أن يعبر بلفظ مبهم عن لفظ واضح، فلو كان مراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: ورب أبيه لقال: ورب أبيه، حتى لا يبقى إشكال، الخامس: أن هذا مما يجري على اللسان بلا قصد كقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: «ثكلتك أمك يا معاذ»، وكقوله:«فاظفر بذات الدين تربت يداك»، كلمات تقال على الألسن ولا يراد معناها وهذا أيضا فيه نظر؛ لأن الحلف بالآباء مما يجري على الألسن في عادة الجاهلية ومع ذلك أبطله النبي صلى الله عليه وسلم ونهى عنه.
فأسلم الأجوبة في ذلك أن يقال: إن هذه الكلمة شاذة ولا يبقى إشكال، وأما القول بأنها تصحيف فهو أيضا وجه سادس؛ قيل به وفيه نظر، ويقول: الأصل: «أفلح والله إن صدق»، لكنهم كانوا فيما سبق لا يعربون الكلمة ولا ينقطونها ولم يرفعوا اللامين، وعليه فلفظ:«أبيه» إذا حذفت النقط ورفعت النبرة صارت «والله» وهذا تحريف، فتكون الكلمة محرفة، ولكن هذا أيضا غير صحيح، بل هو باطل؛ لأن الحديث يروى بالنقل بالمشافهة وبالنقل بالمكاتبة، وأكثر المحدثين