والشاهد من هذا قوله:"إني حرّمت المدينة كما حرّم إبراهيم مكة"، وهذا تشبيه لأصل التحريم بأصل التحريم؛ وذلك لأن تحريم حرم مكة أشد وأشمل، لأن حرم المدينة يستثنى منه أشياء هي حلال وهي في حرم مكة حرام، فيكون التشبيه هنا في أصل التحريم لا في وصفه، فإن حرم المدينة فيه أشياء تحل ولا تحل في حرم مكة، وحرم المدينة من عير إلى ثور، وعير وثور جبلان معروفان في المدينة، قال العلماء: والمسافة -أي مسافة حرم المدينة- بريد في بريد، والبريد: أربعة فراسخ، والفرسخ: ثلاثة أميال، فيكون البريد اثنى عشر ميلاً؛ يعني: اثنى عشر ميلاً في اثنى عشر ميل في واحد وستة من عشرة يساوي ثماني عشرة كيلو وزيادة.
من فوائد الحديث: أولاً: نسبة الشيء إلى من بلغه لقوله: "إن إبراهيم حرّم مكة"، ومثله أن الله نسب القرآن إلى جبريل ونسبه أيضًا إلى محمد -عليهما الصلاة والسلام- فقال تعالى: {لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} بالتكوير: ١٩ - ٢٠]. فنسبة هنا إلى جبريل، وقال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} [الحاقة: ٤١]. فنسبة إلى محمد، فنسبة الشيء إلى المبلغ سائغة شرعًا ولغة.
ومن فوائد الحديث: رحمة هذين الرسولين بأهل هاتين البلدتين وشفقتهما على أهلهما، فإبراهيم دعا لأهل مكة، ومحمد صلى الله عليه وسلم دعا لأهل المدينة.
ومن فوائدة: ثبوت الحرم للمدينة لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إني حرمتها كما حرم إبراهيم مكة".
ومنها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم خصّ الدعوة للمدينة بالمدّ والصاع وهو الطعام الذي يقدر بالأصواع والأمداد، وهذا لا يستلزم أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم دعا في كل شيء وإنما دعا بالطعام، ولذلك نجد أن الطعام في المدينة يكون دائمًا متوفرًا ويكون أيضًا مباركًا في زرعه وجنيه.
ومن فوائد حديث عليّ بيان حد حرم المدينة، وأنه ما بيبن عير إلى ثور، ثم قال المؤلف:
******
[٥ - باب صفة الحج ودخول مكة]
نقول: إنه من شروط العبادة: الإخلاص لله، والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهما الركنان الأساسيان في كل عبادة، فلا تقبل عبادة بشرك، ولا تقبل عبادة ببدعة، فالبدعة تنافي الاتباع، والشرك ينافي الإخلاص، ومن ثم احتاج العلماء -رحمهم الله- إلى بيان صفات العبادات، فبينوا صفة الوضوء، وصفة الصلاة، وصفة الصيام، وصفة الحج، وصفة الزكاة ... وغير ذلك حتى يعبد الناس الله عز وجل على شريعة محمد صلى الله عليه وسلم.