فعلى هذا نقول:"إذا رأيتموه"، أي: الهلال بالتحديد بدليل قوله: "فصوموا"، وإذا رأيتموه فأفطرواه، أي: هلال شوال "فافطروا".
وقوله:"غمَّ عليكم"، الغم بمعنى: التطبيق على الشيء وإخفاء الشيء، ومنه الغم الذي يصيب الإنسان؛ لأنه يحول بينه وبين صفاء الذهن والتفكير، فمعنى "غم عليكم" أي: ستر عليكم بغيم أو قترا أو جبال شاهقة لا تستطيعون صعودها أو ما أشبه ذلك.
وقوله:"فاقدروا له" اختلف العلماء في قوله: "اقدروا له" فقال بعضهم: إنه من التقدير، يعنى: قدروا وانظروا منازله فيما سبق من الليالي الماضية حتى تقيسوا هذه الليلة على ما سبق، وبناء على هذا القول يدخل علينا علم حساب الفلك، وأنه إذا غمَّ علينا الشهر رجعنا إلى الحساب الفلكي وعملنا به، هذا على القول بأنه من التقدير، وقيل: إنه من القدر بمعنى: التضيق، ومنه قوله تعالى:{ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما ءاتاه الله}[الطلاق: ٧].
وحينئذٍ أي شيء نجعله ضيقًا أهو رمضان أو شعبان؟ فيه خلاف:
فقال بعضهم: نجعل الضيق شعبان فيكون تسعة وعشرين ونصوم هذا اليوم الذي هو يوم الشك، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد، وقد نصره الأصحاب نصرًا عظيمًا.
القول الثاني: التضييق لا يكون على شعبان بل يكون على الشهر القادم وهو رمضان، وإذا ضيقنا على رمضان معناه ما دخلناه ننتظر حتى نكمل شعبان ونجعل النقص على رمضان، وهذا القول هو الصحيح من وجهين:
الوجه الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم فسره هو بنفسه، ففي رواية مسلم:"اقدروا له ثلاثين"، وفي رواية البخاري:"فأكملوا العدة ثلاثين"، وفي حديث أبي هريرة:"فأكملوا عدة شعبان ثلاثين، ولا يشك أحد أن أعلم الناس بما يقول هو القائل، فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي فسره لنا بأن قال: "أكملوا العدة ثلاثين" فهل يبقى بعد ذلك قول لأحد؟ أبدًا، ولهذا كان القول الصحيح أن المراد بالقدر: التضييق، لكن على الشهر الداخل بحيث نكمل الشهر الأول السابق ثلاثين، وأما ابن عمر رضي الله عنه راوي الحديث فكان يبعث من يرى الهلال في ليلة الثلاثين من شعبان إذا كان هناك غيم أو قتر، فإن لم ير أصبح صائما رضي الله عنه، ولكن هذا من فعله، وروايته مقدمة على رأيه، فيقال: هذا اجتهاد منه، وهو رضي الله عنه معروف بأنه يميل إلى التشديد أكثر مما يميل إلى التخفيف، ولهذا يقال: إن هارون الرشيد لما طلب من مالك أن يؤلف الموطأ قال له: تجنب رخص ابن عباس وتشديد ابن عمر، وابن عمر معروف بالتشدد حتى إنه كان يغسل في الوضوء داخل عينيه، ويقال: إنه إنما كفِّ بصره في آخر عمره من أجل هذا، فالله أعلم.