الثانية: أنه لا احتجاج بالموقوف؛ لأن الموقوف قول صحابي، وقول الصحابي مختلف في حجته، والقائلون بحجيته يشترطون شرطين: ألا يخالف نصًا، وألا يخالف صحابيًا آخر، وقف آخره من أين؟ من قولها:"ولا اعتكاف إلا بصوم"، ما الذي يدلنا على أن هذا هو مرادها؟ لأن الكلام الأول على نسق واحد:"لا يعود مريضًا ... " إلخ، هذا نسق واحد، والثاني:"ولا اعتكاف" اختلف الأسلوب ونسق الكلام، فنقول: هذا الآخر هو الذي قال ابن حجر رحمه الله: إن الراجح وقفه، فيكون من قول عائشة رضي الله عنها، وقول عائشة لا بد أن يعرض على الكتاب والسُّنة وقد مر علينا أن حديث عمر رضي الله عنه يدل على أن الصوم ليس بشرط.
بقي أن يقال: هل الاعتكاف مشروع كل وقت؟ بمعنى: أننا نقول للإنسان: اعتكف في رجب، في ربيع، في شعبان، في شوال، في ذي الحجة، في أي زمان وفي أي حال مكثت في المسجد؟ الجواب: أن في هذه المسألة خلاف بين العلماء؛ فمنهم من قال: إنها مشروعية، وأنه يشرع للإنسان أن ينوي الاعتكاف في المسجد مدة نحن الآن جئنا لصلاة المغرب وسنبقي إلى صلاة العشاء يسن لنا على رأي هؤلاء أن ننوي الاعتكاف ما بين دخولنا إلى خروجنا؛ لأن الصوم ليس بشرط وإذا لم يكن شرطًا فأيّ وقت تدخل انو الاعتكاف، ومن العلماء من قال: ليس هذا بمشروع ولا نأمر الإنسان به؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يأتون إلى المساجد ولم يرشد أحدًا منهم إلى أن ينوي الاعتكاف، بل لما ذكر تقدم الإنسان إلى المسجد إذا توضأ وأسبغ الوضوء ثم جاء إلى المسجد لم يخط خطوة إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه بها خطيئة، ثم قال في آخر الحديث:"ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة"، ولم يرشد النبي صلى الله عليه وسلم الأمة إلى أن ينوي الاعتكاف مدة انتظارهم الصلاة، مع أن النية- نية الاعتكاف- هل هي من الأمور الواردة التي يتفطن لها الإنسان بلا تنبيه؟ لا، ليست من الأمور التي تكون تابعة للصلاة، ولو كانت من الأمور المشروعة لكان النبي صلى الله عليه وسلم ينبه عليها، ولما لم ينبه دل ذلك على أنها ليست من المشروع.
فإن قال قائل: أليس النبي صلى الله عليه وسلم أقر عمر على النذر الذي نذره في الجاهلية؟
الجواب: أن عمر قصد المسجد الحرام بنية الاعتكاف لا بنية عبادة أخرى، فأنت مثلًا إذا دخلت المسجد لتصلي نقول: لا تنو الاعتكاف، لكن رجل قال: أنا أحب أن أعتكف اليوم في هذا المسجد، نقول: هذا من الأمور الجائزة وليس من الأمور التي تطلب من الإنسان، ولهذا لم يعتكف النبي صلى الله عليه وسلم إلا في رمضان، لم يعتكف في شوال إلا قضاء لما مضى، ولو كان الاعتكاف مشروعًا في كل وقت لكان الرسول صلى الله عليه وسلم يبينه للأمة.