للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أنها كثيرة اللبن، فيشتريها بزيادة، فنهاهم النَّبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك؛ لأن ذلك غش وخديعة وخيانة، وهو عند الفقهاء من باب التدليس، وهو إظهار الردئ بصفة أجود مما هو عليه في الواقع، وقوله: "الإبل، والغنم"، "الإبل" اسم جامع لا واحد له من لفظه، لكن له واحد من معناه، واحده بعير، والغنم واحده الغنمة، وتشمل الضّأن والمعز.

قال: "فمن ابتاعها بعد" أي: فمن اشتراها، "بعد" أي: بعد التّصرية وبنيت "بعد" على الضم؛ لأنه حذف المضاف إليه ونوى معناه، وقد مرّ بنا أن "بعد"، و"قبل" وأخواتها لها أحوال، فتارة تبنى على الضم، وتارة تعرب بالتنوين، وتارة تعرب بلا تنوين، متى تعرب بلا تنوين؟ إذا أضيفت لفظًا أو تقديرًا، وتعرب بتنوين إذا قطعت عن الإضافة لفظًا وتقديرًا، وتبنى على الضم إذا قطعت عن الإضافة لفظًا لا تقديرًا؛ يعني: من أنه يحذف المضاف إليه وينوى معناه.

وقوله: "فهو بخبر النظرين" يعني: فهو بما يرى أنه خير له من أي شيء، قال: "إن شاء أمسكها وإن شاء ردَّها"، "وصاعًا من تمر"، وقوله: "بعد أن يحملها"، لم يذكر أمر الخيار في هذه الرواية، لكن قال: ولمسلم: "فهو بالخيار ثلاثة أيام"، وفي رواية علّقها البخاري ورد معها: "صاعًا من طعام لا سمراء"، قال البخاري: "والتمر أكثر".

في الحديث: "نهى النَّبي صلى الله عليه وسلم، النهي يقتضي التحريم، فيستفاد من ذلك: تحريم تصرية الإبل والغنم؛ أي: جمع اللبن في ضروعها.

وهل يلحق بالإبل والغنم ما سواهما؟ الجواب: نعم، مثل البقر والجاموس وغيره.

وهل يلحق بمباح الأكل محرم الأكل كالأتان يعني الحمارة؟ قال بعض أهل العلم: يلحق لأن كثرة اللبن في الحمارة مقصود، وإن كان الإنسان لا يشربه لكن يشربه ولدها وولد غيرها، فهو مقصود، وقال بعض العلماء: بل إن الأتان لا حكم لتصريته؛ لأن لبنها لا عوض له، والنبي صلى الله عليه وسلم جعل لهذا اللبن المصرَّى عوضًا، وهو صاع من تمر، والراجح الأول أنه خاص بمباح اللبن، اللهم إلا إذا كان ذلك عيب في الأتان، فإن للمشتري الفسخ من أجل العيب.

من فوائد الحديث: تحريم التدليس بالقياس، نقول: لما حرم الشارع تصرية الإبل والغنم من أجل التدليس على المشتري نقيس عليه كل ما فيه تدليس، ومن ذلك ما ذكره الفقهاء -رحمهم الله- جمع ماء الرّحى وإرساله عند عرضها، الرَّحى معروفة وهي التي يطحن بها الحبوب وكيفية جمع ماء هذه الرحى هي: أنهم كانوا يجعلون الرّحى على الجروة ويجعلون لها ريشًا كالمروحة إذا مر بها الماء حرك هذه الريشة واستدارت وهنا كسير متصل بالرّحى، إذا استدارت هذه المروحة استدارت الرّحى، فإذا كانت الجروة قوية صار دوران المروحة قويُّا فيكثر دوران الرّحى وقوي الطحن، هذا تدليس بأن يجمعوا ماء الرحى يحبسونه، فإذا أرادوا أن يعرضوها للبيع فتحوا عليها الماء، فيأتي الماء مندفعًا بشدة، فيظن المشتري أن هذا دأب هذه الرّحى فيزيد في ثمنها.

<<  <  ج: ص:  >  >>