للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الجلب فإنه يخفى على كل الركبان، وغبن آخر يغبن به الغرير الذي لا يعرف، فهذا الذي يحتاج إلى قوله: "لا خلابة" أو يجعله بوجه آخر، ويقال: إنه يثبت خيار الغبن مطلقاً سواء كان الغبن عاما أو خاصاً، لكن قوله: "لا خلابة" من باب التأكيد وقطع النزاع، فإن الخديعة منفية شرعاً؛ لأنها خلاف النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، ولكن إذا نفاها عند العقد صار ذلك من باب التأكيد وقطع النزاع، أما كونها من باب التأكيد فواضح؛ لأن نفي الخلابة ثابت سواء شرط أو لم يشترط، لا يجوز لأحد أن يغبن أحداً لكونه غريراً أو لا يعرف الأسعار، بقطع النزاع؛ لأنه إذا ثبت الخديعة ثبت الخيار بدون نزاع، فلا يقول البائع إذا غر المشتري: أنت الذي أخطأت على نفسك، أنت الذي لم تحتط لنفسك؛ لأنه يقول: أنا أحطت لنفسي بقولي: لا خلابة، هذا الوجه أحسن من الوجه الذي قبله، يعني: أحسن من تقسيمنا الغبن إلى قسمين.

فنقول: إن هذا الحديث يدل اشتراط الغبن للفائدتين المذكورتين وهي التوكيد، وقطع النزاع.

ومن فوائد هذا الحديث- على هذا التقدير الذي قررنا-: ثبوت خيار الغبن لكل مغبون، فكل من غبن بتغرير في الثمن أو في المثمن فإن له الخيار.

ومن فوائد الحديث: أنه يجب أن يكون التعامل بين المسلمين بالنصح بالبيان والصدق وعدم التغرير، وهذا هو الواجب لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»، ومعلوم أن من غرر أخاه وخدعه في البيع أو الشراء فإنه لم يجب لأخيه ما أحب لنفسه، لأن الذي يحب لأخيه ما يحبه لنفسه حقيقة هو الذي يعامل أخاه بما يحب أن يعامل به.

هل يمكن أن يقال: إنه يقاس على البيوع ما سواها من العقود بحيث لا يجوز الخداع فيها؟

الجواب: نعم لا يجوز الخداع في جميع العقود، إما أن نأخذها بالقياس على هذا الحديث، يعني: إما أن نأخذ حكمها بالقياس على هذا الحديث، وإما أن نقول: إنها داخلة في عموم قوله تعالى: {يأيها الذين أمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة: ١]. فإن من الإيفاء بالعقود أن تعامل إخوانك بالنصح، وفي قوله تعالى: {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا} [الإسراء: ٣٤]. وفي قوله تعالى: {ولا تبخسوا الناس أشياءهم} [هون: ٨٥]. إلى غير ذلك من النصوص الدالة على أنه يجب أن تكون معاملة الإنسان لغيره قائمة على النصح بالبيان والصدق.

وفي الحديث هذا دليل على أن الشريعة الإسلامية كما جاءت بإصلاح أحوال الناس في أمور الدين جاءت بإصلاح أحوالهم في أمور الدنيا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد هذا الرجل إلى أن يقول: لا خلابة.

<<  <  ج: ص:  >  >>