يقول:"لأقضين فيكم بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، قوله: "بقضاء" قال بعض العلماء: أي بمثل قضاء؛ لأن قضاء النبي صلى الله عليه وسلم قد انتهى حياته، ولا يمكن أن تكون القضية التي قضى بها أبو هريرة أو غيره من حكام المسلمين هي القضية التي قضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن المسألة على حذف مضاف، أي: بمثل قضاء، وبعضهم يقول: لا حاجة إلى التقدير، لأن الأمر معلوم، وإذا كان معلوما فلا حاجة إلى التقدير، قالوا: ونظير ذلك قوله تعالى: {وسئل القرية التي كنا فيها}[يوسف: ٨٢]. لا حاجة أن نقول: واسأل أهل القرية؛ لأن الأمر معلوم.
ثم قال:«من أفلس أو مات فوجد رجل متاعه بعينه فهو أحق به»، وهذا الحديث كما ترون يوافق ما سبقه في مسألة الإفلاس، لكنه يخالفه في مسألة الموت؛ لأن الحديث السابق يدل على أنه إذا فصاحب المتاع أسوة الغرماء، وهذا يدل على أنه إذا مات فإن صاحب المتاع أحق بمتاعه إذا وجده بعينه، ولهذا قال: صححه الحاكم وضعفه أبو داود، وضعفه أيضا هذه الزيادة في ذكر الموت؛ لأنها تخالف الحديث السابق، والحديث السابق أصح، والقاعدة في مصطلح الحديث: أنه إذا تعارض لفظان وكان أحدهما أرجح من الآخر رواية أو متنا فإن المرجوح يسمى شاذا، حتى لو فرض أن هذا الحديث الشاذ روي بسند متصل، رواته ثقات، لكنه يخالف ما هو أرجح منه، فإنه يعتبر شاذا، على أنه لو انفرد لقبل، ومن ذلك ما رواه أهل السنن من النهي عن الصوم بعد منتصف شعبان، فإن الإمام أحمد رحمه الله ضعفه، وقال: إنه شاذ، لماذا؟ قال: لحديث أبي هريرة "لا يتقدمن من أحد رمضان بصيام يوم أو يومين"، فإن هذا الحديث يدل على أن النهي خاص بما يسبق رمضان يوما أو يومين لا من النصف، والذين قالوا: لا شذوذ قالوا: يمكن الجمع، فيحمل النهي في حديث أبي هريرة على التحريم، وفي الحديث الثاني على الكراهة، إنما قصدي أن العلماء -رحمهم الله- يستعملون الشذوذ في مخالفة الأحاديث التي هي أصح وإن اختلف المخرج، يعني: لو كان المخرج مختلفا وقد كان عند كثير من الطلبة أن الشذوذ لا يحكم به إلا إذا كان المخرج واحدا، يعني: مثل أن يختلف راويان في حديث واحد ولكن تبين من صنيع أهل العلم أنه إذ خالف ما هو أرجح منه ولو كان الحديث مباينا لهذا الحديث فإنه يعتبر شاذا.
على كل حال: الذي نحن فيه الآن هذا الحديث يدل على أنه إذا مات الغريم المفلس فإن صاحب المتاع أحق به من غيره، والأول يدل على أنه أسوة الغرماء، والراجح الأول؛ لأن الثاني ضعيف، الفوائد مثل الأول لكن فيه زيادة إذا صح الحديث.
فمن فوائده: أنه ينبغي للحاكم أن يطمئن الخصوم عند الحكم لقوله: "لأقضين فيكم بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وكذلك أيضا المفتي ينبغي له أن يطمئن المتستفتي إذا أفتاه، لاسيما إذا