وأما قول ابن عمر رضي الله عنه:"وما لي لا أعتد بها"، وقوله:"أرأيت إن عجز واستحمق"، فغاية هذا أن يكون رواية صريحة عنه بالوقوع، ويكون عنه روايتان.
وقولكم: كيف يفتي بالوقوع وهو يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ردها عليه ولم يعتد عليه بها؟ فليس هذا بأول حديث خالفه راويه، وله بغيره من الأحاديث التي خالفها راويها أسوة حسنة في تقديم رواية الصحابي ومن بعده على رأيه.
وهذه قاعدة مضطردة عند العلماء أن العبرة بما روى لا بما رأى وذلك لأن ما رواه خبر عن معصوم وهو ممن يقبل خبره وما رآه فهو رأي قابل للخطأ وقابل للصواب فلذلك كان العبرة بما روى لا بما رأى وأظنه قد ألف بعض العلماء كتابًا سماه:"مخالفة الصحابي فيما رأى لمًا روى".
وقد روى ابن عباس حديث بريرة، وأن بيع الأمة ليس بطلاقها، وأفتى بخلافه، فأخذ الناس بروايته، وتركوا رأيه، وهذا هو الصواب، فإن الرواية معصومة عن معصوم، والرأي بخلافها، كيف وأصرح الروايتين عنه- أي: عن ابن عمر- موافقته لما رواه من عدم الوقوع على أن في هذا فقهًا دقيقًا إنما يعرفه من له غور على أقوال الصحابة ومذاهبهم، وفهمهم عن الله ورسوله، واحتياطهم للأمة، ولعلك تراه قريبًا عند الكلام على حكمه صلى الله عليه وسلم في إيقاع الطلاق الثلاث جملة.
وأما قوله في حديث ابن وهب عن ابن أبي ذئب في آخره:"وهي واحدة"، فلعمر الله لو كانت هذه اللفظة من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قدمنا عليها شيئًا، ولصرنا إليها بأول وهلة، ولكن لا ندري أقالها ابن وهب من عنده، أم ابن أبي ذئب، أم نافع؟ ! فلا يجوز أن يضاف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا يتيقن أنه من كلامه، ويشهد به عليه، وترتب عليه الأحكام، ويقال: هذا من عند الله بالوهم والاحتمال، والظاهر أنها من قول من دون ابن عمر رضي الله عنه، ومراده بها: أن ابن عمر إنما طلقها طلقة واحدة، ولم يكن ذلك منه ثلاثًا، أي: طلق ابن عمر رضي الله عنه امرأته واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره.
وأما حديث ابن جريج عن عطاء عن نافع، أن تطليقة عبد الله حسبت عليه، فهذا غايته أن يكون من كلام نافع، ولا يعرف من الذي حسبها، أهو عبد الله نفسه، أو أبوه عمر، أو رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ولا يجوز أن يشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوهم والحسبان، وكيف يعارض صريح قوله:"ولم يرها شيئًا" بهذا المجمل؟ والله يشهد- وكفى بالله شهيدًا- أنا لو تيقنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي حسبها عليه، لم نتعد ذلك، ولم نذهب إلى سواه.