وقوله:"كان إذا أراد غزوة وري بغيرها" أي: أرى الناس أنه يريد غيرها فإذا كان يريد الذهاب ناحية الشمال سأل عن طريق الجنوب ولا يقول: أنا أريد الجنوب لكن يسأل كيف يذهب الإنسان إلى الجنوب وهكذا وليس المعنى أنه يقول: أنا أريد أن أذهب إلى الجنوب، لأنه لو قال: أنا أريد أن أذهب إلى الجنوب صار كذبًا صريحًا لكن إذا جعل يسأل أين الطريق إلى قبيلة فلان التي في الجنوب، يظن الناس أنه الجنوب ولكنه يريد الشمال والحكمة من ذلك: هي تعمية الأخبار عن الأعداء: ، لأن الأعداء إذا علموا بالخير فإنهم سوف يتأهبون على مقتضى ما علموا فيحصل بذلك مضرة على المسلمين، ولهذا لم يظهر النبي (صلى الله عليه وسلم) الجهة التي يريدها إلا في غزة واحدة فقط وهي غزوة تبوك فإن النبي (صلى الله عليه وسلم) صرح بأنه يريد ذلك، لأنها جاءت في وقت حر وفي وقت طيب الثمار فلا بد أن يصرح للناس بهذا ولأن العدو بعيد عنهم فلهذا صرح بذلك (صلى الله عليه وسلم).
ومن فوائد الحديث: حكمة النبي (صلى الله عليه وسلم) في تدبير الجيوش، لأن التورية لا شك أنها من الحكمة.
ومن فوائده: جواز التورية، ونحن إذا قلنا "جواز" فلا ينفي أن تكون مستحبة في بعض الأحيان، وذلك لأن كل حكم وصف بالجواز فإنه قد ينقلب إلى مسنون وقد ينقلب إلى واجب، وقد ينقلب إلى محرم، وقد ينقلب إلى مكروه، يعني: أن الحكم بالإباحة لا ينفي أن يكون الشيء محرمًا أو واجبًا أو مسنونًا أو مكروهًا بحسب ما تقتضيه الأدلة، فالبيع مثلاً من الأشياء المباحة وإذا باع الإنسان سلاحًا في فتنة صار حرامًا وإذا باع عنبًا لمن يتخذه خمرًا صار حرامًا وإذا اضطر الإنسان إلى مأكل أو مشرب صار البيع عليه واجبًا وهلم جرًا، ومثله أيضًا كل المباحات يمكن أن تجد فيها الأحكام الخمسة فإذا كانت التورية جائزة فلا يعني، أنها لا تستحب في بعض الأحيان.
وليعلم أن التورية نوعان: تورية بالفعل وتورية بالقول؛ فالتورية بالقول أن يريد بلفظه ما يخالف ظاهره والتورية بالفعل أن يفعل ما يخالف ما يريد ظاهرًا فكلاهما على خلاف المراد فيما يظهر للناس وهل التورية بالقول جائزة؟ اتفق العلماء، على أن التورية إذا كانت في شيء محرم فهي حرام، يعني: لو أن صاحب حق أدعي على المحقوق أن عنده وديعه فقال: إني أودعت هذا الرجل ألف درهم فأنكر الرجل فهل يجوز لهذا المنكر أن يوري بالإنكار فيقول ما له عندي شيء يريد بـ "ما" الأسم الموصول، أي: الذي عندي له شيء نقول: حرام