للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

سئلنا ما هي؟ قيل: هي هذه المعروفة بين الناس المتداولة بين الناس، الهرة هل هي سبع أم لا؟ هي في الواقع من السباع؛ لأنها تفرس بنابها فهي من السباع، وكانت الهرة فيما سبق في بلادنا هذه تأكل الدجاج أكلا عظيما تقفز عليها وهي معلقة في مسراها - أعني: الدجاجة- تنزلها في الأرض وتأكلها، أما الآن فسبحان الله! صارت تأكل معها في الإناء سويا ولا تقل لها شيئا أبدا، وهذا قيل إنه من أجل أن الهرة ارتفع نظرها وصارت لا تريد الدجاج يعني: ما تأكله لكنها تأكل الحمام، فالله أعلم، على كل حال هداها الله وسخرها لنا فهي في الحقيقة مما يؤلف في البيوت.

يقول: "ليست بنجس" يعني: أنها طاهرة؛ لأن نفي الضد إثبات لضده، فإذا نفى أن تكون نجسا صارت طاهرة ليست بنجس، ونجس هنا صفة مشبهة كبطل اسم للشجاع، كذلك نجس اسم لما هو نجس بذاته ومنجس لغيره، لكن الرسول - عليه الصلاة والسلام- يقول: "إنها ليست بنجس"، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم من عادته وحكمته وبلاغته في التعليم أنه إذا ذكر الحكم ذكر علته، لاسيما إذا كان الحكم يحتاج إلى علة من اجل أن يطمئن الإنسان إلى هذا الحكم، قال: "إنها ليست بنجس" علل ذلك لم يقل: إنها حلال، قال: "إنها من الطوافين عليكم" لم يقل: من الطوافات، الظاهر - والله أعلم- اتباعا للفظ القرآن في قوله تعالى: {طوافون عليكم بعضكم على بعض} [النور: ٥٨]. فهي من الطوافين، وإنما قلت ذلك؛ لأن المؤنث لا يجمع جمع مذكر، ومعلوم أن الهرة مؤنثة، من الطوافين ما معنى الطواف؟ الطواف: هو كثير التردد، كثير التردد على الشيء يسمى طوافا، فهذه هي العلة التي علل بها النبي صلى الله عليه وسلم كون الهرة ليست بنجس.

ويستفاد من هذا الحديث: أنه ينبغي للإنسان إذا رأى الشخص مستغربا لحال من الأحوال أن يزيل عنه هذا الاستغراب، وجهه: أن أبا قتادة حدث بهذا الحديث ليزول استغراب أهله - يعني: زوجته- وهذا أمر يعتبر من محاسن الأخلاق أن الإنسان يصنع مع أخيه ما يجب أن يطلع عليه وإن لم يسأله، وهذا من هدي الرسول - عليه الصلاة والسلام-، ففي قصة سلمان الفارسي رضي الله عنه أنه قعد خلف النبي صلى الله عليه وسلم لينظر إلى خاتم النبوة، خاتم النبوة عبارة عن علامة تدل على أن محمدا رسول الله خاتم الأنبياء، وقد ذكر لسلمان حسب ما طالت به الدنيا أن من علامات النبي الأمي خاتم النبوة بين كتفيه، فكان النبي صلى الله عليه وسلم جالسا ورأى هذا الرجل وراءه وكأنه يتطلع إلى شيء؛ فنزل الرداء بدون أن يسأل سلمان تنزيله من أجل أن يطلع عليه، فمن محاسن الأخلاق أنك إذا رأيت أخاك يحب أن يطلع على شيء وليس في إطلاعه عليه مضرة عليك فإنه ينبغي أن تدخل عليه السرور باطلاعه على ما يحب الاطلاع عليه.

<<  <  ج: ص:  >  >>