للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إنها ناهية؛ إذ إنه لا يمكن أن يوجه الإنسان النهي إلى من فوقه، ولاسيما أنه بين الخالق والمخلوق، إذا كان من شخص مماثل مساو في الدرجة فإنهم يسمونه التماسا؛ ولهذا تجد حتى في معاملة الناس في كلامهم: "يا فلان من غير أمري عليك افعل كذا"، "من غير أمر لا تفعل كذا"، فيفرقون بين الاستعلاء وبين غيرها، فإذا كانت من مماثل سماها البلاغيون التماسا، وإذا كانت من أدنى إلى أعلى فهي دعاء وسؤال، وإذا كانت من أعلى إلى أدنى فهو نهي، هي النهي يقتضي التحريم أو يقتضي الكراهة؟ سبق أن قلنا كلاما مفيدا وهو انه يقتضي الامتثال سواء كان للتحريم، أو للكراهة، وليس من حقنا أن نقول: هل هو للكراهة، أو للتحريم؛ لأن من سلفنا من الصحابة لم يقولوا إذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء أهو للتحريم، وإنما كان قولهم أن يقولوا: سمعنا وأطعنا، لكن إذا تورط الإنسان في المخالفة حينئذ لا بأس أن يسأل؛ لأنه إذا كان للتحريم وجب عليه التوبة منه، وإذا كان للكراهة فالتوبة غير واجبة؛ لأن فاعل المكروه لا إثم عليه، فحينئذ نقول: إذا سمعت الله تعالى ينهى عن شيء، أو سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم ينهى عن شيء فما موقفك وأنت عبد تابع؟ أن تجتنبه، وبذلك تسلم الذمة، ويسلم الإنسان من أن يتهاون، هذه نقطة مهمة جدا في مقام العبودية؛ لأنه حتى في الناس بعضهم مع بعض لو قال السيد لعبده: "يا فلان، لا تفتح الباب" هل من الأدب أن يقول: يا سيدي أنهيتني نهي منع أو نهي تأديب؟ الجواب: أبدا ليس من الأدب، بل لو أن العبد قال لسيده هذا لعد ذلك منقبة سوء وعاقبة عليه، إنما هل يقتضي النهي التحريم بالنسبة للتعبد انتهينا منه، وقلنا موقف العبد من ذلك أن يتجنب ويقول: سمعنا وأطعنا، لكن من ناحية الحكم، بعضهم قال: إن الأصل في النهي التحريم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما نهيتكم عنه فاجتنبوه". وبعضهم قال: الأصل في النهي الكراهة، وبعضهم فصل قال: أما ما يتعلق بالأدب فهذا للكراهة، وأما ما يتعلق بالتعبد فهو - أي: النهي - للتحريم، وهذا أقرب إلى الانضباط؛ لأن كثيرا من المنهيات نرى العلماء - رحمهم الله- يجمعون على أنها للكراهة، أو يكون أكثرهم يرى أنها للكراهة، فلا تنضبط القاعدة، لكن أقرب الانضباط لها أن يقال: ما كان للتعبد فالنهي فيه للتحريم؛ لأن الله ما نهى عنه إلا وهو لا يرضاه، وما كان للآداب بين الناس والمروءة والأخلاق فهو للكراهة، هاذ تفصيل جيد وهو أقرب الأقوال الثلاثة.

نرجع لشرح حديث أبي هريرة: سبق تعريف النهي، وأنه: "طلب الكف على وجه الاستعلاء"، وشرحناه أيضا وتكلمنا: هل الأصل في النهي التحريم، أو الكراهة، أو في ذلك تفصيل.

<<  <  ج: ص:  >  >>