للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يقول: "اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به"، فهنا تجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد استعاذ من ثلاثة أمور: شرها، وشر ما فيها، وشر ما أرسلت به، وهذه لها معان مختلفة: "شرها" هي بنفسها، لأنها قد تحدث شرًا على الإنسان، إما عامًا أو خاصًا، و"شر ما فيها" قد تحمل أشياء أوبئة تحملها معها فتأتي بها إلى الناس، "وشر ما أرسلت به"؛ لأنها قد ترسل عذابًا تدمر، وأما "أسألك خيرها ... إلخ" فهو على ضد قوله" "أعوذ بك من شرها ... إلخ".

وقد مر علينا أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن سب الريح. وأنه لا يجوز للإنسان أن يسب الريح؛ لأنها مرسلة مأمورة، فسبها سب لمن أرسلها- سبحانه وتعالى- فلا يحل لأحد أن يسب الريح مثل: أن يلعنها أو يسبها بوصف عيب أو ما أشبه ذلك، ولكن إذا قال: ريح شديدة مدمرة فهذا صحيح؛ لأن الله وصف ريح عاد بأنها: {تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم} [الأحقاف: ٢٥]. وأكثر ما جاء في القرآن الرياح بالجمع عندما تأتي بالخير كالمطر كقوله: {والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلدٍ ميتٍ فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور} [فاطر: ٩]. قوله: {وهو الذي أرسل الرياح ... } [الفرقان: ٤٨]. وعندما تأتي ريح بلفظ مفرد غالبًا يكون ذلك عندما تأتي بالشر والعذاب كقوله تعالى: {ريح فيها عذاب أليم} [الأحقاف: ٢٤]. {إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم} [الذاريات: ٤١] لكن قد تأتي الريح مفردة لكنها توصف بما يدل على الخير مثل قوله: {حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريحٍ طيبةٍ} [يونس: ٢٢]. لأن الفلك لا يناسبها الرياح، الذي يناسبها الريح الواحدة؛ لأن الرياح تعرقل سيرها، وكانت الفلك شراعية تمشي على حسب الهواء، فلو تصرفت الرياح لكان ذلك عائقًا لها عن سيرها، فإذا جاءت ريح واحدة وكانت طيبة صار هذا أتم للنعمة.

وقوله هنا: "ما هبت الريح إلا جثا"- إن صح الحديث- المراد: الهبوب الشديد؛ ولهذا في صحيح البخاري. "أنه إذا عصفت الرياح عرف ذلك في وجهه"، وعلى هذا فيكون هنا "هبت" إذا صح الحديث، "ويجثو على ركبتيه" معلوم أنه لا يجثو إلا بأفعال في نفسه، فإذا كان لا يعرف في وجهه عن الريح شيئا إلا إذا عصفت دل على أن المراد بقوله هنا: "إذا هبت" يعني: هبوبًا عاصفًا، أما الهبوب المعتاد فإن الرسول- عليه الصلاة والسلام- لا يفعل فيه هذا.

وفي هذا الحديث دليل على شدة مخافة الرسول صلى الله عليه وسلم من ربه وعقابه، ولهذا كان إذا رأى

<<  <  ج: ص:  >  >>