تقوية، فهذه العلل التي جاءت بها الأحاديث في الأمر بالقيام للجنازة لا ينافي بعضها بعضًا، والمهم: أنك تقوم إذا رأيت الجنازة.
وقوله:"فقوموا"، هل هذا الأمر للوجوب؟ الأصل في الأمر الوجوب، فيقتضي أنه يجب علينا أن نقوم إذا رأينا الجنازة، لكن ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قام ثم قعد، وهذا يدل على أن الأمر ليس للوجوب، ولكن هذا الحديث "قام ثم قعد" لا يدل على أن الحكم نسخت مشروعيته؛ لأن من شرط النسخ عدم إمكان الجمع بين الدليلين، فإن أمكن الجمع وجب، ولا يجوز أن نلجأ إلى النسخ؛ لأن النسخ معناه: إبطال دلالة أحد الدليلين، وهذا لا يجوز إلا بأمر لابد لنا منه.
وقوله:"ومن تبعها فلا يجلس حتى توضع"، لما في ذلك من الاحترام للميت؛ ولأن الميت إذا تبع كان إمامًا، والإمام لا يتخلف الإنسان عنه كالإمام في الصلاة نتابعه، كذلك هذه الجنازة التي نمشي بها، نحن تبعناها فلا نجلس؛ لأن هذا ينافي المتابعة، وينافي أن تكون الجنازة إمامًا لمتبعيها؛ ولهذا قال العلماء: إنه يكره الجلوس لمن تبعها حتى توضع في الأرض للدفن، وأما إذا وضعت لسبب آخر كما لو وضعوها في الأرض لإصلاحها، مثلًا مالت إلى جانب من النعش فإنهم لا يجلسون وإنما يصلحونها، ثم يحملونها ويمشون، لكن إذا وضعت في الأرض للدفن فحينئذ يجوز الجلوس؛ لأنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس حين انتهى إلى قبر رجل من الأنصار، ولما يلحد جلس صلى الله عليه وسلم وجلس حوله أصحابه كأن على رءوسهم الطير، وفي يده مخصرة ينكت بها الأرض فحدثهم عن حال الإنسان عند الموت وبعده وعند دفنه حديثًا يعتبر موعظة، فهذا يدل على أنها لو وضعت على الأرض للدفن لانتهى النهي.
وقوله:"لا يجلس حتى توضع""حتى" هنا للغاية، الفرق بين حتى الغائية وحتى التعليلية: أنه إذا كان يحل محلها "اللام" فهي تعليلية، وإن كان يحل محلها "إلى" فهي غائية، وكلاهما ينصب الفعل المضارع، قوله تعالى:{قالوا لن نَّبرح عليه عاكفين حتَّى يرجع إلينا موسى}[طه: ٩١]. "حتى" هنا غائية، {فقاتلوا الَّتي تبغي حتَّى تفيء إلى أمر الله}[الحجرات: ٩]. تصلح أن تكون غائية وتصلح أن تكون تعليلية يعني: قاتلوها إلى أن ترجع، أو قاتلوها لأجل الرجوع.
يستفاد من هذا الحديث: مشروعية القيام للجنازة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم به، ولولا أنه ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قام وقعد لقلنا: إن الأمر للوجوب، واعلموا أن كلمة "مشروعية" صالحة للوجوب وللاستحباب؛ ولهذا إذا قالوا: يشرع كذا؛ فلا نقول: إنه سنة أو واجب؛ لأنه صالح لهما جميعًا، إذ إن السنة مشروعة، وكذلك الواجب مشروع، إذن نقول: مشروعية القيام للجنازة إذا رؤيت.