للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أما الدعاء لهم فهذه هي الزيارة المشروعة الني كان الرسول صلى الله عليه وسلم عليها، فإنه يسلم عليهم ويدعو لهم بالمغفرة والرحمة، وأما دعاء الله بهم فأن يجعلهم وسيلة إلى الله عز وجل مثل أن يقول: "اللهم إني أسألك بصاحب هذا القبر"، وهذه بدعة محرمة سواء كان صاحب هذا القبر شهد له بالخير أو لم يكن كذلك حتى ولو كان للنبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يجوز لك أن تتوسل به في دعائك، وأما الدعاء عندها فأن يقصد الإنسان المقبرة يزورها معتقدًا أن الدعاء عند القبور أفضل من الدعاء في المساجد أو في البيوت، وهذا أيضًا بدعة مكروهة واعتقاد فاسد، فإنه لا مزية للدعاء عند قبر أبدًا، ولهذا كان القول الراجح: أن الإنسان لا يدعو ولا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان بعض العلماء قال: يستحب لمن زار قبر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتجه إلى القبلة بعد السّلام عليه ويدعو، والصواب خلاف ذلك، وأن هذا المكان ليس من الأمكنة التي تقصد للدعاء، والرابع: أن يدعو أصحاب القبور، يعني: يقول: يا سيدي، يا ولي الله، يا نبي الله، أغثني، أعطني كذا، فهذا شرك أكبر مخرج من الملة؛ لقوله تعالى: {ومن يدع مع الله إلهًا آخر لا برهان له به، فإنَّما حسابه عند ربِّه، إنَّه لا يفلح الكافرون} [المؤمنون: ١١٧]. فهذه أحوال من زار القبور.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور"، والحكمة من ذلك: أن ذلك في أول الأمر مخافة أن تكون تلك الزيارة ذريعة إلى الشرك، فلهذا نهى عنها. ثم قال: "فزوروها" يعني: أمر بعد النهي بالزيارة، والأمر بعد النهي اختلف فيه أهل العلم، فمنهم من يقول: إن الأمر بعد النهي يفيد الإباحة، أي: أن هذا الشيء الذي كان منهيًّا عنه صار الآن مباحًا؛ وذلك لأن لما نهي عنه انتقل حكمه من الإباحة إلى النهي، فلما أذن فيه ارتفع النهي فبقيت الإباحة، ومثاله قوله تعالى: {يا أيُّها الَّذين آمنوا لا تُّحلُّوا شعائر الله ولا الَّهر الحرام ولا الهدى ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلًا مِّن رَّبهم ورضوانًا وإذا حللتم فاصطادوا} [المائدة: ٢]. فأمر بعد النهي، ولكن هذا الأمر في الحقيقة ليس نسخًا؛ لأنه بيان لغاية النهي؛ لأنه قال: {لا تُّحلُّوا شعائر الله ولا الشَّهر الحرام}، ثم قال: {وإذا حللتم فاصطادوا}، فبين أن النهي قد انتهى وليس هذا نسخًا، لكن مثل هذا الذي معنا نسخ من النهي إلى الأمر، فهل زيارة القبور مباحة لورودها بعد النهي؟ قيل بذلك، والصواب: أن الأمر بعد النهي رفع للنهي، وإعادة لحكم المنهي عنه إلى حكمه الأول: إن كان مستحبًا فهو مستحب، وإن كان غير مستحب، فهو غير مستحب.

وهذا الحديث الذي معنا فيه قرينة تدل على أن الأمر للاستحباب، وهي قوله: "فإنها تذكر الآخرة"، وعلى هذا فيكون الأمر بالزيارة مستحبًّا لهذا التعليل.

وفي رواية أخرى لمسلم: "فإنها تذكر الموت": تذكر الإنسان حاله أنه سيكون إلى ما كان عليه هؤلاء، ومعلوم أن الإنسان إذا ذكر الموت فسوف يعمل له إذا كان عاقلًا.

<<  <  ج: ص:  >  >>