للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

في هذا الحديث عدة فوائد: أولًا: إثبات النسخ- نسخ الأحكام- لقوله: "كنت نهيتكم"، ثم قال: "فزوروها"، وثبوت النسخ واقع بالكتاب والسنة، يقول الله عز وجل: {ما ننسخ من آيةٍ أو ننسها نأت بخيرٍ منها أو مثلها ألم تعلم أنَّ الله على كل شيء قديرٌ} [البقرة: ١٠٦]. وكذلك كل أحكام الأمم السابقة التي يخالفها شرعنا كلها منسوخة، كتحريم كل ذي ظفر على اليهود وما أشبه ذلك، ومن أدلة القرآن مثال واقع في مثابرة العدو حيث أمر الله تعالى بألا نفر إلا إذا كان العدو عشرة أمثالنا، ثم ننسخ فقال الله تعالى: {إن يكن منكم عشرون صابرون ... } إلى قوله: {لَّا يفقهون (٦٥) الآن خفَّف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفًا فإن يكن منكم مائةٌ صابرةٌ يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألفٌ يغلبوا ألفين بإذن الله} [الأنفال: ٦٥ - ٦٦].

وكذلك الصيام: {أحلَّ لكم ليلة الصيام .... } إلى قوله: {فالآن باشروهنَّ .... } [البقرة: ١٨٧]. وأما في السنة فالأمثلة في ذلك كثيرة، منها هذا الحديث: "كنت نهيتكم فزوروها" ففيه إثبات النسخ.

فإن قلت: كيف يثبت النسخ، والله- سبحانه وتعالى- بكل شيء عليم، لماذا لم يشرع الله هذا الحكم من أول الأمر ولا يأتي بالنسخ؟

فالجواب: أن النسخ من مصالح العباد لا لخفاء الأمر على الله عز وجل، لكن العباد قد يقتضي صلاح أحوالهم الحكم المنسوخ إلى مدة ثم يكون صلاح أحوالهم بالحكم الناسخ، وهذا أمر معلوم، أي: أن أحوال الإنسان تتغير بالنسبة للأحكام، فقد تكون الأحكام في حال من الأحوال مناسبة، وفي حال أخرى غير مناسبة، وهذه هي الحكمة في ثبوت النسخ.

ويستفاد من هذا الحديث أيضًا: أن أحكام الله عز وجل تابعة لحكمها، وأن الحكم يدور مع علته، وجهه: أن الناس لما كانوا حديث عهد بكفر وكانت فتنة القبور قد تكون قريبة نحوهم نهوا عن زيارة القبور، ثم بعد ذلك نسخ هذا الحكم، ففيه دليل على أن الأحكام تتبع الحكم.

ومن فوائد الحديث أيضًا: أنه يجب على من علم الحكم الشرعي أن يرجع إليه ولو كان حكم في الأول بخلافه، بمعنى: أن الإنسان لو اجتهد فأداه اجتهاده إلى أن هذا الشيء حرام، ثم تبين له أنه حلال أو بالعكس، فيجب عليه الرجوع، كما يجب الرجوع إلى الحكم الناسخ عند وجود النسخ، والعلة الجامعة بينهما: أنه قد تبين لهذا المجتهد أن حكم الله تعالى خلاف الحكم الأول كما تبين في النسخ أن حكم الله خلاف الحكم الأول.

ومن فوائد الحديث: مشروعية زيارة القبور، وأنه ينبغي للإنسان أن يزور القبور، وكلمة "زوروها" فعل، والفعل يدل على الإطلاق، والإطلاق يحصل بفعل الشيء مرة، ولكن متى تكون هذه الزيارة؟ هل لها وقت معين؟ الصواب: أنه لا وقت معين لذلك، وأن الإنسان يزور المقبرة في أي وقت شاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق، ما قال: زوروها في أول النهار ولا في آخره، ولا

<<  <  ج: ص:  >  >>