وقال الرسول صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص:"إن لربك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا"، فالتزهد في الدنيا ألا تعمل لها، لا ألا تعمل فيها، فالعمل في الدنيا لا ينافي العمل للآخرة، لكن اجعل عملك في الدنيا مطية الوصول إلى الآخرة، فإذا قلنا: بع واشتر والبس الثياب وما أشبه ذلك، تقول: أزهد فألبس صوفًا، أو خيشة، ولا أنتفع بالناس، ولا ينتفع الناس مني، هذا غير صحيح قال الله تعالى:{هو الَّذي جعل لكم الأرض ذلولًا فامشوا في مناكبها وكلوا من رِّزقه}[الملك: ١٥]. وقال تعالى:{فإذا قضيت الصَّلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله ... }[الجمعة: ١٠]. فالزهد في الدنيا تختلف أفهام الناس فيه فمنهم من يقول الزهد في الدنيا ألا تنظر إلى شيء منها أبدًا، وبعضهم يقول: لا، الزهد في الدنيا أن تعمل ما ينفعك في الآخرة ولو كان من أمور الدنيا وهذا هو الحق.
فإن قلت: ما تقول في قوله تعالى لرسوله- عليه الصلاة والسلام-: {ولا تمدَّن عينيك إلى ما متَّعنا به أزواجًا مِّنهم زهرة الحياة الدُّنيا ... }[طه: ١٣١]؟
قلنا: هذا لا ينافي ما قلنا، الله سبحانه يقول: لا تمدن عينيك إليه لتتعلق به فإنه زهرة الحياة الدنيا، لم يقل: لا تنظر إليها إطلاقًا، لا تمدن إليها بحيث تتعلق بها حتى يكون أكبر همك فإنما هو زهرة الحياة الدنيا، نعم الإنسان الذي تشغله دنياه عن آخرته لا شك أنه خاسر للدنيا والآخرة، أما الإنسان الذي جعل الدنيا مطيّة للآخرة فهذا رابح في الدنيا والآخرة ولا شك أيضًا أن الدنيا فتنة عظيمة:{واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنةٌ}[الأنفال: ٢٨]. والإنسان ربما يفتتن في الدنيا سواء كان غنيًّا أو فقيرًا، قد يغنيه الله ومع ذلك هو مفتون بالدنيا، كأنه ليس في جعبته قرش واحد، وقد يكون فقيرًا ويفتن في الدنيا ويكتسبها على وجه محرم.
والحاصل: أن الزهد في الدنيا معناه: الإعراض عنها وألا تعمل لها، وأما العمل للآخرة في الدنيا فلا بأس به.
هناك زهد وهناك ورع هل بينهما فرق؟ قال شيخ الإسلام: إن الفرق بينهما أن الورع: ترك ما ير في الآخرة، والزهد: ترك ما لا ينفع في الآخرة، فالزهد إذن أكمل يتبين ذلك في المباح، المباح يفعله الورع؛ لأنه لا يضره في الآخرة، والزاهد يتركه؛ لأنه لا ينفعه في الآخرة، ولكن إذا كان وسيلة لنفعه في الآخرة فعله.