فيضان يتلفه، أو يأتي دكانه حريق يحرقه، أو يأتي ماشيته جنود يأخذونها أو ما أشبه ذلك، لكن الجائحة لا بد أن تكون بينة؛ ولهذا لم يحتج إقامة البينة على هذه الجائحة؛ لماذا؟ لأنها ظاهرة، ولهذا هنا لم يشترط النبي صلى الله عليه وسلم أن يشهد عليه أحد.
قال:"اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش"، "القوام": ما تقوم به حياته، و"من عيش": ما يعيش به الإنسان، وليس المراد بالعيش: ما هو معروف عندنا في اللغة العامية وهو القمح، ولكن المراد بالعيش هنا: ما يعيش به الإنسان من لباس، وطعام، وشراب وما أشبه ذلك، إذن ما تقوم به حياته. "ومن عيش" أي: ما يعيش به.
ثم قال:"ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ... الخ"، "الفاقة"، يعني: الحاجة، لكنها ليست حاجة بينة للناس، إنما رجل كان غنيًّا ومعروفًا بالغني وانكسر انكسارًا بغير شيء معلوم، مثل ما يحصل في بعض الأحيان تكسد الأشياء، ويكون الرجل قد اشترى سلعًا كثيرة فخسرها، ويكون أيضًا قد اشترى هذه السلع بأكثر من ماله الذي بيده كما يوجد من أهل الطمع إذا رأوا الأشياء ترتفع ذهب الواحد منهم يشتري أكثر من ماله، فإذا نزلت الأشياء خسر وصارت ديونه عظيمة، لكن لو أن الإنسان لا يشتري إلا مقدار ما عنده ما حصل الخلل، وهذا هو العقل وهو الشرع ألاَّ تشتري أكثر مما عندك، هذا الرجل اشترى سلعًا كثيرة وهبطت الأشياء وخسر والناس يظنون أنه ما زال على غناه. إذن فالفرق بين هذا والذي قبله: أن الذي قبله تلف ماله بسبب ظاهر "جائحة"، أما هذا فإن الفاقة صارت بسبب خفي لا يعلم عنه.
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه لقد أصابه"، قوله:"لقد أصابه" مفعول لفعل محذوف، والتقدير: حتى يقوموا فيشهدوا لقد أصابه، أما على النسخة التي عندكم:"حتى يقول" فإن مقول القول يكون قوله: "لقد أصابه"، ولا حاجة إلى التقدير.
قال النبي صلى الله عليه وسلم:"ثلاثة من ذوي الحجا"؛ لأن هذا الذي ادَّعى الفقر يدعي استحقاقًا يستلزم حرمانًا كيف ذلك؟ هذا الذي أخذ هذا المال من الزكاة أخذه إياه يستلزم استحقاقًا ويستلزم حرمانًا لغيره من الفقراء الآخرين فكان من الحكمة أن يكون الشهود ثلاثة واشترط النبي صلى الله عليه وسلم شرطين مع هذا العدد من ذوي- الحجا وهو العقل-يعني: أنهم أصحاب فطنة وانتباه ليسوا أصحاب غفلة وغرة تفوتهم الأشياء ويغرر بهم، أو ليسوا أيضًا من ذوي العاطفة الذين تغلبهم العاطفة حتى يشهدوا لإنسان بمقتضى هذه العاطفة لا بمقتضى العقل.
الشرط الثاني:"من قومه"، وهذا يعود إلى اشتراط الخبرة؛ لأن قومه هم أهل الخبرة بحاله، فاشترط الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثة شروط: العدد بأن يكونوا ثلاثة، العقل، الخبرة. العقل؛ لقوله:"من ذوي الحجا"، والخبرة من قوله:"من قومه"؛ لأن قومه أعلم.