فإن قال قائل: إن قومه قد يحابونه فيشهدون بما ليس بصواب؟ فالجواب: أننا إذا حصلت هذه التهمة وتحققناها فإننا لا نقبل كغيرهم من الشهداء الذين تقوى فيهم التهمة، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم راعى كونهم من قومه أنهم أقرب إلى العلم بحاله.
يقول:"لقد أصابت فلانًا فاقة"، اللام هنا موطِّئه للقسم، و"قد" للتحقيق، وعلى هذا فتكون الجملة مؤكدة بثلاثة مؤكدات: القسم المحذوف، واللام، وقد، ولكن قد تجاب الشهادة بما يجاب به القسم فيقول: أشهد لقد كان كذا وكذا، والجامع بينهما هو التوكيد في كلٍّ منهما القسم مؤكد والشهادة أيضًا مؤكدة.
وقوله:"أصابت فلانًا فاقة، فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش"، قال:"فما سواهن" أي: فالذي سواهن، وهنا حذف من الصلة، فأصلها:"فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحت" حذف فضل الصلة، أو نقول: الصلة موجودة "سواهن سنحت" الجملة هذه تامة أو لا؟ إذن كلامنا الأول صواب فالذي هو سواهن سحت، والسحت: هو المال المأخوذ بغير حق، وسميِّ سحتاّ؛ لأنه يسحت بركة المال، وربما سحت المال نفسه، ولهذا تجد كثيرًا من الناس الذين يكتسبون الأموال بالباطل لا يموتون إلا وهم فقراء وهذا شيء مشاهد، فإن سحت نفس المال فالأمر ظاهر، وإن لم يسحته فقد سحتت بركته.
وقوله:"وما سواهن من المسألة يا قبيصة"، دخلت الجملة الندائية هنا بين المبتدأ والخبر للتنبيه، قال:"يأكلها- وفي رواية: يأكله- صاحبها سحتّا"، أما على القول بأنه "يأكله"، فواضح أنه مطابق لقوله:"سحت"؛ لأن سحتًا مفرد مذكر، وأما على الرواية الأخرى "يأكلها"، فالمراد: الصدقة: يعني: ما سوى هذه المسألة، فإن من سأل من الصدقة فأكلها فهو سحت يأكلها. وقوله:"سحتًا"، هذه حالٌ من الهاء في قوله:"يأكلها"، وهي مؤكدة لقوله:"سحتًا".
هذا الحديث كما تشاهدون أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن المسألة- والمراد بها: مسألة المال- لا تحلُّ إلا لواحدة من هذه المسائل.
نستفيد من هذا الحديث؛ أولًا: تحريم مسألة المال إلا في هذه الأحوال الثلاثة، لقوله صلى الله عليه وسلم:"إن المسألة لا تحل".
ومن فوائد الحديث أيضًا: حسن تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم كيف هذا؟ الحصر والعد؛ لأن هذا مما يزيد الإنسان حفظًا وفهمًا.
ومن فوائد الحديث: أن الإنسان إذا تحمّل حمالة لغيره فإن له أن يسأل حتى يصيب هذه الحمالة كقوله: "إلا لأحد ثلاثة .... " الخ.