للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الصائم ولو كان طعامًا وسقيًا، وحينئذٍ يلغز بها فيقال: لنا طعام وشراب لا يفطر، ولكن هذا فيه نظرا لأن الطعام والشراب في الآخرة لا يكون إلا بعد دخول الجنة، والنبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يأخذ عنقودًا من الجنة في صلاة الكسوف ولكنه بدا له ألا يفعل فتركه.

والقول الثاني في المسألة: أن المراد بالطعام والسقي هنا: ما يحصل للقلب من الغذاء بذكر الله عز وجل والاشتغال بذكره عما سواه، واشتغال الروح وتعلقها بالشيء لا شك أنه يشغلها عن حاجات البدن المادية الحسية، نحن الآن لو فرض أن نشتغل بشغل شاغل حقيقي لكنا نذهل عن الأكل والشرب، فهو في غفلة عن الطعام والشراب الحسي، فيكون المراد بالطعام والسقي هنا: ما يفرغه الله عز وجل على قلب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنس بذكره والاشتغال به عما عداه، وهذه خاصية لا توجد لأحد سوى النبي صلى الله عليه وسلم، وبهذا يظهر الفرق بينه وبين أمته، فإن أمته لا تطيق أن تشتغل بذكر الله عز وجل عن الأكل والشرب، قالوا: منه قول الشاعر: [البسيط]

لها أحاديث من ذكراك تشعلها ... عن الشَّراب وتلهيها عن الزَّاد

هذا اشتغال ذهنها بذكر محبوبها مع أنه ليس تعلق هذه المرأة بمحبوبها كتعلق محبة الرسول صلى الله عليه وسلم بالله عز وجل، بل محبة الرسول لله صلى الله عليه وسلم واشتغال قلبه به لا يدانيها أي محبة، وهذا هو الذي يميل إليه ابن القيم رحمه الله وهو الحق.

قال: "فلما أبوا أن ينتهوا"، "أبوا" يعني: امتنعوا، لا عصيانًا لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، فهم أشد الناس امتثالا لأمره، لكنهم-رضي الله عنهم- ظنوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهاهم إشفاقا عليهم وخوفا عليهم من التعب، وأنه ليس هذا من باب الأمور التعبدية، ولكن من باب الخوف عليهم، فقالوا: نحن نطيق ذلك وسنفعل، ونظير هذا لو أنني طلبت منك مثلًا أن تدخل الباب قبلي وأبيت، هل تكون عاصيًا لي؟ لا، لأنك ما قصدت المعصية، لكن قصدت الأدب معي، هكذا الصحابة أيضًا ما قصدوا المعصية بلا شك، لكن ظنوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال ذلك إشفاقا عليهم ورحمة بهم لا لأجل أن هذا من باب العبادة فقالوا: نواصل فواصل بهم يومًا ثم يوما ثم رأوا الهلال، وإذا رأوا الهلال لا يمكن الوصال، أي هلال رأوه؟ شوال، فقال: "لو تأخر الهلال لزدتكم يومًا ثالثًا ورابعًا"، لماذا؟ قال الراوي: "كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا".

"كالمنكل" يعني: كالذي يدعوهم إلى الترك، فالتنكيل هنا بمعنى: الترك، يعني: أنه أراد أن يواصل لو تأخر الهلال لأجل أن ينفروا عن هذا الفعل فيعرفوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما نهاهم إلا من

<<  <  ج: ص:  >  >>